الانفجار الفلسطيني والنقاش الإسرائيلي حول ديمقراطية الدولة
بقلم: طوني فرنسيس

تل أبيب تخوض معركة السلطة الداخلية أما الاستيطان فمشكلة أمنية تتعلق بالإرهاب والأثمان قد تكون فادحة

النشرة الدولية –

لا توقيت للتفجير الشامل في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، فاختبار الصدام وارد في كل لحظة وربما يتحول إلى مواجهة شاملة.

في غياب المساعي الجدية وما يسمى “العملية السلمية” تواصل سلطات الاحتلال سياسة قضم الأراضي وطرد السكان العرب وتوسيع الاستيطان وقتل من تعتبرهم إرهابيين وهم أشخاص يدافعون ببساطة عن أرضهم وعن حقهم في الحرية.

خلال الأسابيع الماضية تصاعد التوتر إلى حدوده القصوى مع تسلم حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة السلطة في إسرائيل. لم تتسبب هذه الحكومة بالغليان في الضفة المحتلة فقط، بل أثارت تظاهرات مناهضة من قبل الجمهور اليهودي نفسه الذي رأى في مشروعها حول إصلاح القضاء إمعاناً في التدخل السياسي بالسلطة القضائية ومحاولة من نتنياهو للهرب من المحاسبة، وهو المتهم بالفساد إلى حد إرسال فاتورة طعام كلبه لقبضها من الدوائر المالية الرسمية.

لا يلتقي الغليان في الوسط الفلسطيني مع نظيره الإسرائيلي، فلكل منهما مسبباته الخاصة، لكن ما يحدث في تل أبيب سيؤثر في الأراضي المحتلة، إذ إن صراع القوى في إسرائيل يمكن توجيهه تدريجاً إلى الخصم الخارجي كملاذ تقليدي للهروب من أعباء اهتزاز التحالف المتطرف الحاكم.

كانت الحركة الأميركية الكثيفة نحو تل أبيب ورام الله وبعض العواصم العربية إشارة إلى تنبه أميركي للأخطار المحدقة في حال تفجر الأوضاع ونشوب انتفاضة فلسطينية أخرى. وقال محللون إن الإدارة الأميركية لا تريد رؤية بؤرة صراع متفجرة في الشرق الأوسط في وقت ينصب تركيزها على أوكرانيا. لم يطرح زوار واشنطن إلى تل أبيب والسلطة الفلسطينية العودة للعملية السياسية لتسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي واكتفوا بالتركيز على التهدئة ووقف التصعيد.

كان همهم إبعاد شبح مواجهة شاملة في فلسطين بالتعاون مع سلطة فلسطينية تحاصرها تل أبيب وتضغط على صدقيتها أمام شعبها، ومع حكومة إسرائيلية يزايد وزراؤها على بعضهم بعضاً في الدعوة إلى الاستيطان ومحو العرب، ونجحت الإدارة الأميركية في تنظيم مؤتمر العقبة الأمني وهي تلح الآن على وضع مقرراته موضع التنفيذ.

وقائع الأرض جاءت مختلفة عن وعود المنتدى الأمني. في الليلة التالية هاجم مئات المستوطنين بحماية الأمن الاسرائيلي قرية حوارة العربية فأحرقوا المنازل والسيارات والممتلكات في مشاهد تذكر بليلة البلور النازية ضد اليهود وممتلكاتهم في ألمانيا.

لم يكن الحدث فريداً. قبله ومنذ الأربعينيات تكررت مشاهد مثيلة. وفي قلب الخليل وأنحاء الضفة والقدس تتكرر تحديات المستوطنين كل يوم.

يتراكم الصراع على الأرض وتزداد مخاوف أصحابها. في القرى العربية نشأت مجموعات حراسة ليلية مسلحة بالعصي لحماية البيوت من المستوطنين المدججين بالأسلحة والرغبة في الهيمنة.

يروي أحد شبان بلدة ترمسعيا العرب، القريبة من حوارة أن “شباب القرية يسهرون تطوعاً إلى الصباح ويتحركون على شكل مجموعات، إما سيراً على الأقدام أو بواسطة آليات زراعية صغيرة، ويمدهم الأهالي بالماء والمشروبات الساخنة أثناء الليل البارد”.

ليس أمام هؤلاء سبيل آخر، فلا سلطة قادرة على الحماية ولا دولة احتلال تلتزم واجبات حفظ أمن الخاضعين لها.

لا يقتصر الأمر على تهديدات المستوطنين اليومية، ففي الحكومة وزراء يتبنون مشاريع هؤلاء، على رأسهم الوزيران بن غفير وسموتريتش، ونتنياهو نفسه حرض المستوطنين في زيارة عزاء خلال الأيام الأخيرة قائلاً “لو كان الأمر ممكناً كان الفلسطينيون ليقتلونا جميعاً فهم يريدون اقتلاعنا، وأنا أقول إن ردنا يجب أن يكون بضربهم بشدة وتعميق الاستيطان وزيادة سيطرتنا على وطننا”.

ينشغل المجتمع الإسرائيلي بمعركة سياسية ضد الحكومة، لكن مسألة الاحتلال لا تثير كثيراً من النقاش إلا من زاوية الأخطار المحتملة وإمكانية انتفاضة فلسطينية شاملة. لم تصدر أصوات إسرائيلية جدية تدعو إلى حل جذري لمشكلة الاحتلال وضرورة الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، لكن أصواتاً كثيرة ارتفعت ضد ما اعتبرته تهديد الحكومة لديمقراطية الدولة.

كتب أوري مسغاف في صحيفة “هآرتس” أن “نتنياهو يسير بالدولة نحو أزمة دستورية، هذا لا يعتبر أمراً عقلانياً. الدولة هي أكثر من مجموع المصوتين، هي تاريخ وفكرة. في حالة إسرائيل تعتبر معجزة لا يمكن السماح لنتنياهو ومساعديه بتدميرها”.

ويرى العقيد في الاحتياط غور ليش أنه “حين يكون هناك خطر على طابع الدولة الديمقراطي لست مستعداً للعيش في دولة ديمقراطية زائفة لا يوجد فيها فصل بين السلطات”.

هموم النخبة الإسرائيلية في مكان آخر تماماً. الاحتلال والاستيطان ليسا ضمن المشكلات الرئيسة المطروحة عليهم، ولم تتحول إلى مادة نقاش جدية في الوسط الإسرائيلي.

في الوسط الفلسطيني يختلف الأمر تماماً. فالاحتلال هو القضية الأولى، لكن انقسام الفصائل يجعل مواجهته عملية صعبة ومعقدة، ولا يمكن بأي حال مقارنة الانقسام الإسرائيلي حول ديمقراطية دولة قائمة بالانقسام الفلسطيني في أرض محتلة.

كان يفترض أن تساعد حدة الصراع على الأرض والهوية في إنجاز المصالحة الفلسطينية الشاملة بما يسمح بوضع برنامج وطني موحد للمواجهة، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. وبعد مرور ستة أشهر على إعلان المصالحة في الجزائر لم يتحقق شيء على أرض الواقع. ويبدو أن الاتفاق الذي وقعته حركتا “فتح” و”حماس” و12 فصيلاً فلسطينياً انضم إلى سلسلة اتفاقات سابقة أخرى بقيت حبراً على ورق، فما جرى في الجزائر كان “إكراماً لقيادتها” وليس حرصاً على وحدة الموقف الوطني الفلسطيني.

وانضم اتفاق أكتوبر (تشرين الأول) 2022 الجزائري إلى سلسلة اتفاقات سابقة، هي القاهرة (2005) ومكة (2007) ودمشق (2010) والقاهرة (2011) الذي حمل اسم “وثيقة الوفاق الوطني للمصلحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني”، ثم اتفاق 2014 في القاهرة الذي نص على قيام حكومة توافق خلال خمسة أسابيع وتنظيم انتخابات عامة خلال ستة أشهر، وبعده اتفاق آخر في القاهرة عام 2017 ثم ذلك المهرجان الوفاقي عبر الأثير بين إسماعيل هنية ومحمود عباس من بيروت إلى رام الله برعاية “حزب الله” ورعاته الإيرانيين.

لم يتغير شيء في المشهد الفلسطيني فيما تزداد خطورة المشروع الاستيطاني حدة وتزداد إلحاحاً الحاجة إلى قيادة فلسطينية موحدة تقود وتخوض معركة حفظ الحقوق وقيام الدولة المستقلة. هذه القيادة يفتقدها الشعب الفلسطيني بقوة وهو يرسم يومياته في مواجهة الاحتلال. فلا سلطة تحميه ولا قوة ردع موحدة تفرض توازناً في القوى بين جيش الاستيطان وجمهور القرى والأحياء الفلسطينية.

كل ذلك لن يمنع استمرار المواجهات، لكن الأثمان يمكن أن تكون فادحة في وقت تظهر إسرائيل وكأنها تخوض معركتها الديمقراطية الداخلية، أما هيمنتها على الأراضي الفلسطينية، فليست سوى مشكلة أمنية تتعلق بمكافحة الإرهاب.

 

زر الذهاب إلى الأعلى