فوسايو اليابانية تملّكها حبّ الأردن وأطفاله… 30 عاماً في الأحياء الشعبية

النشرة الدولية –

النهار العربي – نديم عبدالصمد –

من منّا لا يتذكر الكابتن ماجد وغرندايزر وريمي وسالي وغيرهم من الشخصيات الكرتونية التي استوردتها قناة “سبسيتون” من اليابان؟

تشتهر في منطقتنا العربية الرسوم اليابانية المتحركة “مانكا” أو “الانيمي” والتي ظهرت في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. وناقشت معظم هذه الرسوم ثنائية الخير والشر وقيم العدالة ومساعدة الآخرين والحرية وغيرها من المفاهيم من طريق تقديم شخصيات تلفزيونية خياليّة وأبطال تبنّت هذه الثقافة.

في عام 1994، صارت هذه الرسوم جزءاً من الواقع وليست مجرد خيالات، فحضرت إلى الأردن بطلة يابانية آمنت بالقيم ذاتها وتأثرت بها لتصبح شخصية يابانية حقيقية تعمل من أجل الأطفال.

على بعد 25 كلم من العاصمة عمان قابل “النهار العربي” اليابانية فوسايو اريكورا، ممثلة “الاتحاد النسائي للسلام العالمي” في الأردن، وهو منظمة نسائية يابانية تُبرز دور النساء في إيجاد مجتمع عالمي مسالم.

تسكن فوسايو بين الأحياء الشعبية في مدينة الرصيفة، وهي إحدى المناطق التي تشهد كثافة سكانية عالية وتقع ضمن نطاق محافظة الزرقاء، شمال شرقي العاصمة عمان.

على رغم انتشار الفقر في الرصيفة، ذات الخدمات الصحية والتعليمية القليلة الجودة، إلا أنها تشهد تنوعاً ثقافياً كبيراً يعبّر عن الأردن بصورة مصغّرة، ويجعلها مكاناً يستقطب الباحثين عن التعددية والاختلاف وبالتالي عن التنمية.

فوسايو تتحدث إلى مراسل “النهار العربي”.
من الأنيمي الياباني إلى الواقع الأردني
فوسايو التي ولدت وسط اليابان عام 1951، وكمثل كل الأطفال اليابانيين، تأثرت بالانيمي الياباني وتحديداً “اتومب الحديدي”، وهو روبوت طيب القلب كانت قضيته الأولى تحقيق العدالة، وفق فوسايو.
ربما من الصعب الحديث عن العدالة لطفلة تبلغ من العمر 10 سنوات، وكانت بالكاد قد خرجت عائلتها من تبعات الحرب العالمية الثانية والآثار المدمرة لهيروشيما التي ضربت البلاد عام 1945، إلا أنها كبرت تحمل مبادئ وقيماً وأخلاقاً زرعها “الانيمي” في حياتها، كما فعل العم “فيتالس” حينما احتضن “ريمي” وعطف عليها في كرتون “دروب ريمي”.
شقّت فوسايا طريقاً مختلفاً وعرفت توجهها في الحياة عندما درست اختصاص التعليم في إحدى الجامعات اليابانية، أملاً منها في أن تصبح معلمة ذات يوم، لكنها لم تتوقع أن تعلّم أطفال الأردن بدل أطفال اليابان.
في عام 1994 حطت طائرة آتية من اليابان إلى الأردن ومعها مجموعة من اليابانيين من ضمنهم فوسايو، قدموا إلى عمّان للتطوع في مكتب الاتحاد النسائي العالمي، من أجل التأسيس وقتذاك، وليحصلوا على خبرة مدتها ثلاث سنوات ويعودوا إلى بلادهم. دار حجر النرد وتقلّبت الحظوظ لتبقى فوسايو وحدها في الأردن، ولتصبح جزءاً من المجتمع الأردني، حيث امتدت إقامتها لفترة قاربت الثلاثين عاماً، ولا تزال مستمرة.
الحياة بين الجارات الأردنيات
“انا لا أشعر أني وحيدة أبداً، فلا يمكن أن يمرّ يوم من دون أن أتناول وجبة الغداء في أحد بيوت النساء اللواتي عملت معهن، خصوصاً عندما كنت أسكن في وادي السير في عمّان”، تقول فوسايو.
لم يكن العمل مع الأطفال في منطقة الرصيفة هو الوجهة الأولى لفوسايو، فتطوعت قبل ذلك مع النساء في منطقة وادي السير، وكذلك تطوعت مع اللاجئين العراقيين في منطقة الهاشمي الشمالي وفي مخيم الزرقاء، إلى أن استقرّت عام 2016 في الرصيفة.
تستذكر فوسايو جاراتها في عمّان وتعتبرهن السبب الرئيسي الذي استطاعت من خلاله تكوين العلاقات الاجتماعية مع محيطها، “كانت زياراتي للنساء فرصة لأن أتعرف على المجتمع الأردني عن قرب، وكنت أتعمد زيارة السيدات في منازلهن حتى أكسب ثقة العائلات، وخصوصاً أن بعض الرجال كانوا يخافون على زوجاتهم كوني يابانية”. وبضحكة عالية وبلغة عربية مكسرة تقول: “كانوا يعتقدون أنني أبيع الأطفال”.
تتفهم فوسايو قلق العائلات من أي شخص غريب، لذلك أصبحت تشاركهم يومياتهم ومناسباتهم، “صحيح أن اللغة كانت عائقاً في الحديث بعض الأحيان، لكننا لم نكن نتحدث في مواضيع عميقة”.
محل الأزهار على رأس الطلعة، والبسطة أمام الجامع، وجمعية “أثر” للتنمية الشبابية، كلها أماكن مشهورة في محيط الاتحاد النسائي العالمي، ما زاد شهرة فوسايو، التي أصبحت علماً بارزاً خصوصاً بين الأطفال المستفيدين من الخدمات التي تقدمها.
تتخذ فوسايو من مقر الاتحاد الكائن في مدينة الرصيفة مكاناً لإقامتها، “كل هذا المكان من أجل أن يتعلم الأطفال، وأنا ما عندي غير هذه الغرفة”، وتشير إلى باب الغرفة الذي كتب عليه “غرفة خاصة”.
بين أطفال اليابان وأطفال الأردن
عند الحديث عن سبب رغبتها في البقاء هنا، تحاول فوسايو قدر الإمكان ضبط كلماتها ومشاعرها، “لا توجد برامج ثقافية للأطفال هنا ومعظم المعلمين لا يستطيعون التركيز في بناء التعليم وتطويره لأنهم يضطرون للعمل صباحاً ومساءً”.
ظهرت على وجنتي فوسايو حسرة واضحة على الأطفال الذين يتلقون مجرد تعليم أكاديمي يجعلهم لا يحبون المدرسة، “من الممكن أن تجد أطفالاً في اليابان لا يحبون الدراسة الأكاديمية، لكنهم يحبون المدرسة لأن فيها نواديَ وأنشطة أخرى يمكن ممارستها”.
ولا تخفِ حزنها على الأطفال الذين يتعرضون للأذى والاقتتال والتدخين والمخدرات والتحرش والسرقة: “كل هذا سببه الفراغ، أريد أن أعطي الأطفال تجربة الأمور الجيدة في الحياة. إذا كانت لديهم فرص جيدة سوف يتعلمون معنى العدالة والإيجابية”.
لذلك، تعمد فوسايو إلى إنشاء برامج ثقافية خاصة لأطفال المدارس تسمّيها “نوادي ثقافية” توفر فيها أماكن خاصة لهم لكي يلعبوا ويتعلموا الرياضة والموسيقى والفن والمسرح.
72 عاماً والحلم مستمر
لا يشغل بال فوسايو سوى أن تنقل هذه التجربة إلى الأطفال من طريق المتطوعين الذين يعملون معها، “هذا المكان لا يخدم الأطفال فقط، وإنما المتطوعين الذين يعملون معهم، فعلى رغم أن ظروفهم الاقتصادية ليست بأفضل حال، لكنهم يخصصون ساعات يومياً من أجل خدمة الأطفال”.
ومثل القصص الخيالية، التي ينتصر فيها الخير على الشر بشكل مبالغ فيه، تقول فوسايو: “من يريد أن يعمل معنا أو يتطوع يجب أن لا تكون الماديات همه الأول، وإنما العمل مع الأطفال وتقديم الخدمات لهم”.
تؤمن فوسايو بدورها في المجتمع، لذلك كانت تربط حياتها بالأطفال وبرفاههم، “لم يتبقَ من عمري الكثير، لكنني ما زلت أحلم بأن يصبح الأطفال أشخاصاً جيدين بغض النظر عن وضعهم الاقتصادي”.
تجربة أردنية تصقلها الحكمة اليابانية
تبلغ فوسايو من العمر 72 عاماً، وقبل أن تأتي إلى الأردن تزوجت وأنجبت طفلاً وحيداً صار شاباً يبلغ من العمر الآن 35 عاماً: “أذهب إلى اليابان مرتين كل عام، وهناك أحرص على البقاء مع عائلتي، وفي الوقت نفسه أكون مشغولة في تحضير التقارير من أجل تحصيل الدعم للمركز هنا في الأردن وضمان استمراريته”.
وخلال وصفها التجربة في الأردن، بدت فوسايو واقعية في طرحها، فلا تزال تعتقد أن سعادتها غير مكتملة إلا عندما تستطيع أن تجعل من الاتحاد مكاناً أكبر يخدم الأطفال ويغيّر من حياتهم إلى الأفضل: “أحاول أن أكون سعيدة لأنني لا أزال غير قادرة على مساعدة الناس كما أطمح”.
ولتضيف واقعية أكثر إلى حديثها تستخدم اقتباساً يصلح لأن يكون حكماً لخاتمة كرتون ياباني يشبه قصتها: “كيف يمكن أن نكون سعداء ونحن نرى ماذا يحصل في كل أنحاء العالم؟”.
لم تقل فوسايو هذا الكلام تشاؤماً، بل كانت تود القول إن الحياة بحاجة لأشخاص قادرين على أخذ زمام المبادرة من أجل الآخر وليس من أجل أنفسهم فقط، لكن لغتها العربية ولا حتى الإنكليزية أسعفتها، بل كان سياق الحديث يسوقها بكل بساطة إلى هناك.

 

زر الذهاب إلى الأعلى