أنا وأنسي الحاج
النشرة الدولية –
صوت altra – خالد سليمان الناصري –
كنتُ حينها فتى في بداية بدايات كتابة الشِّعْر. كنتُ أخرج من بيتي في دمَّر، وأصعد جبل قاسيون، ثمَّ أهبط منه في ساحة الأمويِّيْن الدمشقية، وأدخل المكتبة الوطنية متجنِّبًا النظر إلى تمثال حافظ الأسد الرابض في مدخلها. أُسلِّم على موظَّفة الاستقبال، وأعطيها ورقتي من الكُتُب التي أريدها: لن لـ أنسي الحاج، وكتابان آخران. يتكرَّر هذا المشهد لأيَّام عديدة، ولا يتغيَّر شيء أبدًا سوى عنوانَي الكتابَيْن الآخرَيْن. تسألني الموظَّفة بعد أيَّام من تكراره: ما قصَّتُكَ أنتَ مع كتاب لن هذا؟ أبتسم ولا أُجيبها. آخذ كُتُبي، وأدخل قاعة القراءة، أبحث عن الطاولة الأكثر عُزلة وأجلس. كنتُ أقرأ لن كاملًا كلَّ يوم، ثم أنسخ منه على دفتري قصيدة واحدة، ثم أكتب عشرات القصائد متعمِّدًا تقليد تلك القصيدة، كان هدفي أن أتشبَّع بأُنسي الحاج، أن يسري شِعْره إلى نقيي عظامي، أن يدخل في تركيب الـ DNA خاصَّتي. أن أفوحَ شِعْرًا مثله.
شكَّل أُنسي الحاج حالة نادرة في تاريخ الشِّعْر العربي، مثل طفرة جِينية من داخله، لكنه ربَّما جاء في الزمن الخطأ أو قبل أوانه أو بعده، لا يمكننا التثبت من ذلك!
سمَّتْني الموظَّفةُ “لن”. جاء “لن”، ذهب “لن”… إلى في يوم من الأيَّام لم يكن “لن” في قائمتي، بل استبدلتُهُ بـ”الرأس المقطوع”. ولكم أن تتخيَّلوا وجهها! وهكذا مرَّت أيَّامٌ كثيرة حتَّى وصلتُ إلى “الرسولة بشَعْرها الطويل حتَّى الينابيع”، فبعد أيَّام من دخولي فيه، وكنَّا دخلنا فصلَ الشتاء، قالت لي مها: تعرف أني قرأتُهُ بالأمس. تبادلتُ أنا وهي القبلة الأولى في غرفة أمانات الملابس، وثمَّ ربطتْني بها علاقة طويلة جدًّا، لكنها لم تصل إلى الينابيع. أساسًا لم يكن شَعْرها طويلًا حتَّى. وكنتُ أنا قد وصلتُ إلى “الوليمة” التي أردتُ، كنت أمشي في الشارع وأنظرُ إلى المارَّة بعينَيْن قويَّتَيْن وأسألهم: تريدون شِعْرًا؟
قراءة أُنسي الحاج حينها كانت حاسمة بالنسبة إليَّ لأتَّخذ درب الشِّعْر المنثور، وليس بسبب تنظيره له في مقدِّمة لن، بل بفعل نصوصه التي تقدِّم نموذجًا فريدًا لما يمكن لشاعر أن يبعد في فرادته، بصعوبة بالغة تُناقِض تمامًا تلك السهولة التي تقدِّمها القصيدة الموزونة، والتي على سهولتها تظلُّ أصعب من تلك المُقفَّاة. صعوبة لا يدرك كُنهها إلَّا مَنْ كان مثل أُنسي لديه القدرة على الرؤية. رؤية ذلك العصب الذي للهواء الذي نتنفَّسه، رؤية ما يكتبه ليس كلغة مكتوبة، إنما كأشكال مُتجسِّدة وحَيَّة، ولها حرارة أيضًا.
ومع أن أُنسي الحاج جاء من المستقبل، لكنْ، هناك شيء به يشبه إنسان ما قبل عصور التاريخ، فكأنه حين يكتب شِعْرًا يرسم رسومًا على الحجارة أو على جدران الكهوف، ثمَّ يمضي. لأنني حين أقرأ شِعْره أشعر دائمًا وكأن يدي تلامس سطوحًا حجرية، ولا أبالغ حين أقول لكم إنه لأكثر من مرَّة انتبهتُ وأنا أقرأ شِعْره بأن في يدي قبضة رمل، لا أعرف كيف جاءت. يكتب على هذه السطوح التي لم تُسَوَّ من قبل، والتي تختلف أحجامها وتملؤها النتوءات والانحناءات والمساحات الهشَّة، أو القاسية جدًّا أو الرطبة أو الجافَّة، ومع ذلك، فإنه يكتب نصًّا يُقرأ بوضوح شديد، وكأنه تسرَّب في مسامَّات تلك السطوح الحجرية، وأصبحتْ مثل ما يصبح الوَشْم على الجِلد الحَيِّ. يقول:
بحَجَرٍ أَحْفُرُ الحَجَرَ: جَسَدي وردة
وفي قصيدة أخرى،
تُلاطفِين وجهَ الحَجَرِ، فيدفقُ نهر.
ما ظلَّ معي حتَّى اليوم هو أُنسي الحاج. مجموعاته الشِّعْرِيَّة التي نسختُها على دفاتر نزعتُ عنها الغلاف، وعوَّضتُها بأغلفة من تصميمي أو “شخبراتي” بتعبير أدقّ حينها، المهمُّ كانت تلك هي المرَّة الأولى التي أكون فيها ناشر أُنسي الحاج، ناشره السرِّيّ. لا زلتُ حتَّى الآن أذكر تلك الأغلفة والدفاتر التي رافقتْني لفترة لا بأس بها، إلى أن ضيَّعتُها “في صحراءِ اليقينِ المُظفَّر”.
ها أنا الآن أصبح ناشره مجددًا، ولكن العلني هذه المرة، وبأغلفة ودفاتر لن تَضيع.
في أعماله الكاملة التي نُصدرها الآن، أسمينا الجزء الأوَّل “الشِّعْر”، وسيتضمَّن المجموعات الشِّعْرِيَّة الستَّة الأولى له، والتي يكون فيها شِعْره أمينًا لمقدِّمته في ديوانه لن. ثمَّ سيصدر الجزء الثاني في مجلَّدَيْن، وسيتضمَّن مقالات أُنسي الحاج والمُعنونة بـ كلمات كلمات كلمات. ثمَّ الجزء الثالث، والذي سيشمل خواتم أُنسي الحاج، وسيكون أيضًا في مجلَّدَيْن “خواتم 1+2” والجديد هو “خواتم 3”. وخواتم هذه هي الجنس الأدبي الخاصّ بأُنسي الحاج، والذي يبدو أنه قد وصل له بعد أن وصلتْ روحه إلى الأقصى الممكن (حسب تعبير بودلير)، وكَتَبَهُ ليُجيب عن سؤاله هو نفسه في بادية آخر قصائد الوليمة: ومتى كان الشَّاعرُ يكتبُ شِعْرًا؟ بعدها سيكون الجزء الأخير، والذي أسميناه “الترجمات” (إذا ما استطعنا الوصول إليها).
شكَّل أُنسي الحاج حالة نادرة في تاريخ الشِّعْر العربي، مثل طفرة جِينية من داخله، لكنه ربَّما جاء في الزمن الخطأ أو قبل أوانه أو بعده. لا يمكننا التثبُّت من ذلك، ولكنَّا نحلم مثلما كان يحلم هو، لذا نُعيد نشر أعماله الآن، وأملنا أن نلفتَ انتباه الأجيال الجديدة لها وله، شعلة النار التي اتَّقدت في ستِّينيات القرن الماضي، والتي لا تزال متوهِّجة تحت أوراق الخريف. لعلَّنا نجد جوابًا عن سؤاله:
أمامَ أمواجِ السُّمِّ التي تُغرِقُ كلَّ محاولةِ خروجٍ، وتكسرُ كلَّ محاولةٍ لكسرِ هذه الأطواقِ العريقةِ الجذورِ في السُّخف، أمامَ بعثِ رُوحِ التَّعصُّبِ والانغلاقِ بعثًا مُنظَّمًا شاملًا، هل يُمكنُ محاولةٌ أدبيَّةٌ طَريَّةٌ أنْ تتنفَّس؟