إيران والصراع على الخلافة
بقلم: حسن فحص

معركة مختلفة تدور بعيداً من الأعين وخلف الكواليس تقودها بصمت وبقوة المؤسسة العسكرية والأمنية

النشرة الدولية –

مع تراجع التهديد الناتج من الحراك الشعبي الاعتراضي الذي تفجر في سبتمبر (أيلول) 2022 على إثر مقتل الفتاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق، عاد الجدل السياسي بين الأوساط السياسية على مختلف انتماءاتها وتوجهاتها الإصلاحية والمحافظة والمعتدلة وحتى الليبرالية حول مسألة أو أزمة خلافة المرشد ليطفو على السطح.

عودة هذا الجدل، وتحوله إلى محور الاهتمامات بين أقطاب المنظومة الحاكمة والسلطة الممسكة بالنظام، قد لا يكون بعيداً أو منفصلاً عما يشهده الوضع الداخلي من أزمات اقتصادية ومالية وإدارية وصراعات سياسية بين مراكز القرار، ومحاولة كل طرف استخدام هذه الأزمات في مواجهة الطرف الآخر لإضعاف موقفه وإخراجه من سباق السيطرة على مستقبل النظام والسلطة ومقدرات البلاد، والتحكم بكل السياسات والتوجهات الداخلية والخارجية.

وقد لا تكون أزمة الملف النووي والمفاوضات مع الجهات الدولية المعنية بهذه الأزمة، وحتى الضغط لفرض أجندات على السياسات الخارجية ورؤية التوجه شرقاً وتعميق التحالف مع روسيا والصين، قد لا تكون بعيدة من هذا الجدل والصراع، بل في صلبه، لأن القائمين أو الجهات التي تتبنى هذا التوجه تسعى لتكريس حقائق ووقائع سياسية واستراتيجية واستخدامها في معركة الإمساك بقرار النظام، بحيث تكون قادرة على إيصال مرشحها لمنصب الخلافة وموقع المرشد أو ولي الفقيه.

وإذا ما كان الوسط السياسي الإيراني باختلاف توجهاته، منشغلاً في رصد أنشطة ومواقف وتصرفات بعض الشخصيات السياسية المحسوبة على المؤسسة الدينية، التي تدخل في دائرة الشخصيات المرشحة للتنافس على موقع الخلافة، يبدو أن صراعاً مختلفاً يدور بعيداً من الأعين وخلف الكواليس تقوده بصمت وبقوة المؤسسة العسكرية والأمنية التي لا تأخذ في الاعتبار الصراع بين هذه الشخصيات، بل تعمل على تنفيذ مخططها أو رؤيتها التي من المفترض أن تنتهي بإمساكها بقرار تعيين طبيعة ومستقبل النظام المقبل والآلية التي سيقاد بها ونوع القيادة التي ستكون في رأس الهرم أو القمة.

ويبدو أن هذه المنظومة الأمنية والعسكرية، لن تتردد في استخدام أي آلية أو وسيلة من أجل الوصول إلى هدفها وتحقيق ما تريده للإمساك بمفاصل القرار وموقع القيادة بعد المرشد الأعلى الحالي، ومن بين هذه الآليات خلق حالة من الصراع الداخلي الدائم، وإشغال مراكز القرار والسلطات الرسمية في هرمية الدولية (التنفيذية والتشريعية والقضائية) في صراعات ومناكفات على الصلاحيات، وتقاذف الاتهامات والمسؤولية عما تشهده إيران من أزمات اجتماعية واقتصادية ومالية ومعيشية، وحتى في التراشق في ما يتعلق بالمسؤولية، وما تشهده السياسات الخارجية والعلاقات مع المحيط الإقليمي والدولي من توترات وانسداد، بحيث تحولت كل خطوة يسعى أي طرف للقيام بها تساعد على تخفيف الضغوط الخارجية بكل مستوياتها إلى تهمة ومادة للسجال والتراشق، ما جعل أي طرف من هذه الأطراف يتخوف من المبادرة حتى لا يتحمل أو يحمل أو يتهم بالتنازل وحتى خيانة المصالح الاستراتيجية والوطنية. ولعل ما يجري على مسار إعادة إحياء الاتفاق النووي واستئناف المفاوضات يشكل مؤشراً واضحاً على حجم هذا الجدل والصراع.

في المقابل، لا يبدو أن المنظومة الأمنية والعسكرية هي الوحيدة التي تمتلك رؤية أو مخططاً لمستقبل السلطة والنظام، إذ يشكل جناح متشدد من التيار المحافظ المعروف بجماعة “الثابتون – بایداریها”، وهو التيار الذي تشكل حول رجل الدين المتشدد محمد تقي مصباح يزدي، باعتباره مرشداً روحياً لهذا التوجه، وكان يزدي من أبرز المؤيدين والداعمين لمحمود أحمدي نجاد، ولم يتخل عنه حتى بعد اختلافه مع المرشد الأعلى، ثم انتقلت قيادته بعد انتخابات داخلية إلى صادق محصولي وزير الداخلية في عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد والمقرب منه، إلا أن الشخصية المؤثرة في توجهات هذه الجماعة هو عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام ممثلاً عن المرشد الأعلى سعيد جليلي، الذي لم يتردد في إبعاد معارضته العلنية لتوجهات المرشد في إعطاء الضوء الأخضر لاستئناف المفاوضات النووية، انطلاقاً من عقيدة لديه ولدى جماعته بأن عدم التفاوض واستئناف الأنشطة النووية يضع إيران في موقع القوي وتكون قادرة على فرض شروطها على أميركا والغرب.

وهذه الجماعة هي التي دعمت إبراهيم رئيسي في معركته الانتخابية واستطاعت الإمساك بكثير من المواقع الحساسة والمقررة في مفاصل السلطة التنفيذية، ودفعت رئيسي لحسم خياراته بمزيد من الاقتراب والانسجام مع توجهاتها عندما وجد فيها القدرة أو إمكانية إيصاله إلى موقع قيادة النظام، وأن يكون المرشد الثالث بعد المؤسس والمرشد الحالي.

إلا أن القاسم المشترك بين المنظومة الأمنية والعسكرية وهذه الجماعة، باعتبارهما الأبرز في الصراع الخفي على مستقبل الإمساك بالنظام، أنهما يستغلان الآليات نفسها لتحقيق هذا الهدف بأسلوبين مختلفين. فالمنظومة الأمنية تسعى لتوظيف، إن لم يكن لخلق، الأوضاع الأمنية وحالة القمع والملاحقة التي تمارس بحق الناشطين وعمليات تكميم الأصوات والآراء المعارضة للنظام وسلطته للدفع بمشروعها، أي من خلال إخراج واستبعاد كل مصادر القلق والإرباك من الساحة، وإخلائها أمام المخطط الذي تريده، في حين أن جماعة “الثابتون” يحاولون فرض رؤيتهم على المجتمع الإيراني، بأن ما يقومون به هو لنفع الشعب ومصالح إيران الوطنية والاستراتيجية، وأن الأزمات التي يعانون منها ليست نتيجة سياسات اقتصادية واجتماعية ومالية فاشلة تقوم بها حكومة رئيسي، بل نتيجة الضغوط الخارجية، الأميركية والغربية، التي تستهدف النظام ومصالحه وسيادته على قراراته الداخلية والخارجية. بالتالي فإنها (أي هذه الجماعة) ومرشحها لخلافة المرشد، الأقدر على بناء مستقبل إيران والحفاظ على سيادتها وقوتها.

حتى الآن، لم تقل المنظومة الأمنية والعسكرية كلمتها في معركة الخلافة أو شخصية وطبيعة المرشد الثالث، في حين أن معالم مشروع جماعة “ثابتون” بدأ بالاتضاح والتبلور، وهذا لا يعني أن المعركة ستكون محصورة في المستقبل بينهما، إذ من الطبيعي والمتوقع أن تظهر مراكز قوى أخرى وتدخل على خط التنافس والصراع، إلا أن الأقدر على حسم الموقف على الأرجح، سيكون من نصيب المؤسسة الأمنية والعسكرية التي لن تتوقف كثيراً عند التداعيات والآثار التي ستنتج من إمساكها بالقرار، بما أنها ستتعامل مع النتائج النهائية لها وتفرض نفسها على مستقبل إيران.

زر الذهاب إلى الأعلى