إسرائيل تتفلّت خارج دورها الوظيفي
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

عندما تصل العلاقات السياسية والدبلوماسية بين إسرائيل والولايات المتحدة إلى مستوى السباب العلني المتبادل، كما شهدناه قبل عشرة أيام يتكرر للمرة الثالثة خلال بضعة أشهر أعقبت تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الائتلافية، فإن القراءة المتوازنة لهذا الذي يحدث، لا تترك مجالا واسعا للجدل؛ ثمة شيء ما استثنائي طرأ على العلاقة التي تأسست فيها إسرائيل جدولة، وظيفية تابعة لأمريكا ومحمية منها، وها هي الآن تتفلّت بقيادة اليمين المتطرف لتوسيع هامش استقلاليتها عن واشنطن، وبعناد يستنفر إدارة أمريكية ضعيفة، فيُخرج الطرفين عن مألوف لغة الخطاب.

أنْ يخرج السفير الأمريكي في القدس عن طوره ويصف وزير المالية الإسرائيلي بأنه أحمق، ويزيد على ذلك بالتمني لو كان بإمكانه أن يرميه من الطائرة التي تقلّه إلى واشنطن، فهذه لغة خطاب محتقن بين دولتين تمرّ علاقاتهما في منحدرٍ أعمق وأوحش من كل الذي قيل في البيانات الرسمية التي غطت زيارات استثنائية قام بها كبار مسؤولي الأمن القومي الأمريكي والمخابرات والدفاع والأركان والخارجية لإسرائيل خلال الشهرين الماضيين.

مع شتائم السفير الأمريكي لوزير المالية الإسرائيلي، كانت حكومته قالت رسميا إن هذا الوزير غير مرغوب أو مُرحّب به، وفي واشنطن خرجت ضده مظاهرات وعرائض من سبعين منظمة وجمعية، ليأتيها الجواب من مصدر مقرب من نتنياهو، بأن الإدارة الأمريكية هي التي تموّل مظاهرات الغضب ضد حكومة نتنياهو، وتروّج تحذيرات من حرب أهلية إسرائيلية في الطريق، ومن مخاطر منظورة بتفكيك الدولة.

وفي المقابل، لم تعد ترى اللوبيات الأمريكية المؤازرة لنهج نتنياهو، حرجًا في أن يكون لها مرشحٌ للرئاسة الأمريكية القادمة هو نيكي هايلي حاكمة ولاية ساوث كارولينا التي أعلنت أنها تخطط لتكون المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024.

للسباب التوبيخي والتحذيري الذي تبادلته إدارتا بايدن ونتنياهو في الأسابيع الماضية، تفسيرٌ سيكولوجي معروف كان بحث فيه الأستاذ في جامعة كيلي البريطانية ريتشارد ستيفينس، وانتهى إلى أن الشتيمة تجعل من يطلقها أكثر قدرة على تحمّل الغضب المكبوت، كونها تحفّز جهازه العصبي الذي يتوقع المزيد من التوتير.

قليلٌ من التدقيق الهادئ في الذي يحصل الآن في الشرق الأوسط، في العام الثاني من حرب أوكرانيا، يرسم صورة عن حجم التغيير الذي حصل في الشرق الأوسط.

والمزيد من التوتر بين إدارتي بايدن ونتنياهو بدا صارخًا في حيثيات زيارة وزير المالية الإسرائيلي لواشنطن وزيارة وزير الدفاع الأمريكي للقدس الأسبوع الماضي، إذ طفت على السطح شواهد على مستجدات حقيقية من نوع تلك التي كانت جعلت واحدًا من أبرز كتاب مقالات الرأي في الصحافة الأمريكية، توماس فريدمان، يكرر في نيويورك تايمز قناعته أن “هذه ليست إسرائيل التي نعرفها”.

نعم، ما يجري الآن بين إدارتي نتنياهو وبايدن مختلفٌ عن كل الأزمات التي شهدتها العلاقات الأمريكية الإسرائيلية طوال العقود الستة الماضية، أول أزمة كبيرة بينهما كانت في حرب السويس 1956، أعقبها موضوع المفاعل النووي الإسرائيلي السري في ديمونة والذي عارضه الرئيس الأمريكي جون كينيدي بشدة وحزم (1961 – 62) قبل أن يُقتل في ظروف غامضة شابتها نظريات مؤامرة لم تتوقف..

وتلتها قضية الجاسوس الإسرائيلي جوناثان بولاند (1985)، مرورا باتفاقيات أوسلو التي لم تنفذ فيها إسرائيل ما تعهدت به للفلسطينيين وللولايات المتحدة، وصولًا إلى الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، الذي لا يزال موضع خلاف شرس بين بايدن ونتنياهو.

وفي كل تلك المواجهات ظلت الخلافات بين البلدين في حدودها البنيوية: حدود العلاقة بين القوة العالمية الكبرى وبين صنيعتها في الشرق الأوسط، إسرائيل.

مثلا.. كانت العلاقة المتوترة بين نتنياهو وباراك أوباما وصلت حدودًا مُسفّة قرأنا عن مفرداتها الفظّة في كتب المذكرات لكنها في حينها كانت تبقى غضبًا يتم التحكمّ فيه بحيث لا يصل حد الشتائم العلنية التي يراها علماء النفس تعبيرًا عن موقف مشتعل يصعب التحكم في مفرداته، كما يحصل الآن.

آخر التقديرات غير الرسمية للقوة النووية الإسرائيلية تشير إلى امتلاكها 90 سلاحًا ذريًّا، مع مخزون من البلوتونيوم يكفي لإنتاج نحو 150 قطعة أخرى.

لا يمكن الإحاطة بحجم الأزمة الراهنة المتحركة بين إسرائيل وأمريكا دون التسليم بنقطتين ثقيلتين:

الأولى أن الإدارة الأمريكية الراهنة مع جو بايدن لعلها الأضعف على امتداد العقدين أو الثلاثة الأخيرة.

والثانية أن حجم الحاجة الإسرائيلية للدعم والحماية الأمريكية لم تعد قائمة بالصيغة أو المعادلة التي تأسست عليها الدولة العبرية. نتنياهو (وهو الذي يحلم بأن يدرجه التاريخ في مصافّ بُناة الدولة الإسرائيلية ومجدّديها) يريد أن يخرج بإسرائيل من الصفة الوظيفية لدى واشنطن ليبقى البلدان حليفين مميزين في شرق أوسط يُعاد ترتيبه الآن بتوصيفات جديدة تعاند الغطرسة الأمريكية.

هذا الطموح المتفلّت الذي لا يخفيه نتنياهو وحلفاؤه في الائتلاف الحكومي التلمودي، أمر يصعب على واشنطن أن تجرعه، خاصة أنها الآن في أضعف حالاتها، تدفع في سياقات حرب أوكرانيا أثمانًا باهظة تتداعى فيها قبضتها بسلسلة موصولة من الانكسارات السياسية والمصرفية المرفقة بتفكك نظام الائتمان العالمي الذي كان قائمًا على الدولار.

في السنوات الأخيرة، أضحت إسرائيل تستشعر الأمن في محيطها الإقليمي بدرجة غير مسبوقة، ولم يعد لمفهوم الحماية الأمريكية لإسرائيل أي مضمون حيوي: معاهداتُ سلام متزايدة، وترتيبات جوهرية استجدت على علاقاتها مع تركيا والإقليم النفطي، بينما ساعدتها السلطة الفلسطينية على أن يبقى الاحتلال بأقل كلفة ممكنة والاكتفاء بإدارة القضية – الأزمة، بدلاً من حلّها.

ثم إن القوة العسكرية والتقنية الإسرائيلية حرّرتها نسبيًّا من الارتهان للحماية الأمريكية. فآخر التقديرات غير الرسمية للقوة النووية الإسرائيلية تشير إلى امتلاكها 90 سلاحًا ذريًّا، مع مخزون من البلوتونيوم يكفي لإنتاج نحو 150 قطعة أخرى.

ورغم أن هذه الترسانة النووية لا تؤمّن الحماية الحقيقية لبلد ضيق المساحة مكشوف على الإزالة، إلا أن ذلك يعزّز لهجة النديّة التي يتحدث بها نتنياهو مع واشنطن وهو يعود الآن على رأس حكومة ائتلافية من الدينيين واليمين المتطرف الذي يرفض الاستجابة للنصائح الأمريكية العلنية ومن تحتها التهديدات التي لم تعد سرية، يرفضها علنًا ويسمح أيضا لوزرائه ومقربين منه بأن يسبوا ويدعوا وزير الخارجية الأمريكي بأن يكف عن توزيع نصائح الديمقراطية .

نتنياهو لم يكن غائبًا عن التحوّلات في النظام الإقليمي الجديد، فقد جازف بفشخة عريضة ليُخرج فيها إسرائيل من التبعية الوظيفية لأمريكا المتراجعة.

في كل إستراتيجيات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على امتداد العقود الستة الماضية كان يُقال إن إسرائيل والنفط هما مناط الحضور والعسكرة الأمريكية في الشرق الأوسط، لكن المراوحة وعدم اليقين اللتين وسمتا الإدارتين الأخيرتين، مع ترامب وبايدن، في موضوع الانسحاب العسكري أو عدمه، من الشرق الأوسط، كانت كفيلة بتعميق وتعميم عدم الثقة بواشنطن، وبتشجيع معظم الأطراف الإقليمية بما فيها إسرائيل على اختراق ما بقي من المظلّة الأمريكية المتراجعة.

قليلٌ من التدقيق الهادئ في الذي يحصل الآن في الشرق الأوسط، في العام الثاني من حرب أوكرانيا، يرسم صورة عن حجم التغيير الذي حصل في الشرق الأوسط ويتراكم بسرعة ليجعل هذه المنطقة تبدو وكأنها هي أول تجليات الدخول في النظام العالمي الجديد:

فأمريكا المتراجعة الغائبة عن الشرق الأوسط ليست أمريكا التي كنا نعرفها.

والصين التي شهدناها الأسبوع الماضي، تخترق الشرق الأوسط برعاية وإنجاز اتفاق بين السعودية وايران.. ليست هي الصين التي كنّا نعرفها.

وكذلك روسيا وتركيا وإيران، ليست هي التي كنا نعرفها خلال خمس أو عشر السنوات الماضية.

أيضا نتنياهو لم يكن غائبًا عن هذه التحوّلات في النظام الإقليمي الجديد، فقد جازف بفشخة عريضة ليُخرج فيها إسرائيل من التبعية الوظيفية لأمريكا المتراجعة، وكان في ذلك يفتح جبهة حرجة مع إدارة بايدن لا تستثني المسبّات العلنية، وهو يعرف جيّدًا أنه يقامر بما يتجاوز تاريخه السياسي.

زر الذهاب إلى الأعلى