الضاحية الجنوبية لبيروت بين أمس أخضر وحاضر شاحب
يقول مراقبون إنها منطقة معقدة ولا يمكن اختصارها بـ"المربع الأمني"
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية –
كيف تغيرت الضاحية الجنوبية من سهل فسيح أخضر إلى مربع أمني مكتظ بالسلاح والأسمنت؟
تفسر اللغة العربية كلمة الضاحية أو الضواحي بالناحية الظاهرة خارج المدينة، وتطلق أيضاً على المنطقة التي لا شجر فيها، وهي تدل أيضاً على ما بني خارج السور، يوم كان للمدن أسوار. ولكن التسمية ارتبطت عموماً في أذهان سكان المدن بالمناطق الفقيرة، وبالأشخاص الخارجين عن القانون، أو ما يعرف بـ”أحزمة البؤس”. ولكن هذا قد لا يكون دقيقاً، إذ إنه في الدول المتقدمة تصمم ضواحي المدن لتستقبل الأثرياء من الذين يرغبون بالعيش برفاهية بعيداً من ضوضاء وتلوث قلب المدينة.
وفي لبنان ارتبطت كلمة “الضاحية” بالضاحية الجنوبية لبيروت، مع العلم أن العاصمة تحيطها ضواح أخرى، شرقية وشمالية، ولكن للضاحية الجنوبية “شهرة” خاصة. فلماذا استأثرت واختصرت “الضاحية” الضواحي الأخرى، ولماذا باتت منطقة “المحرومين” و”المستضعفين”؟ ولمَ لا تعرف إلا بأنها تضم لبنانيين من الطائفة الشيعية؟
تقع الضاحية الجنوبية بطبيعة الحال جنوب بيروت، وتتبع إدارياً لمحافظة جبل لبنان، وتمتد على مساحة نحو 28 كيلومتراً مربعاً، تمتد من مشارف خلدة جنوباً إلى منطقتي الجناح، والطيونة شمالاً، ومن عين الرمانة، والحدث شرقاً، إلى شاطئ الأوزاعي غرباً. وكانت عبارة عن بساتين من الزيتون والحمضيات قبيل السبعينيات، وذلك وفقاً لمن تحدثوا لـ”اندبندنت عربية”، وتحولت تدريجاً إلى مناطق مكتظة تضم أبنية عشوائية، لا تخضع للتنظيم المدني، مستولية رويداً رويداً على المناطق الخضراء المحيطة بها، نظراً إلى تزايد أعداد الوافدين من قرى الجنوب والبقاع وبخاصة بعد عام 1982. ووفقاً لمسح إدارة الإحصاء المركزي لعام 2007 فإن 50.3 في المئة من سكانها هم من الجنوب، و24.3 في المئة من البقاع، و9.7 في المئة من بيروت، و15 في المئة من جبل لبنان، و0.7 في المئة من الشمال، و0.1 في المئة من حملة جنسية قيد الدرس. وتضم الأحياء أو المناطق التالية: الشياح، والغبيري، والمشرفية، وبرج البراجنة، وحارة حريك، وبئر العبد، وحي السلم، وحي فرحات، وحي الليلكي، ومنطقة الأوزاعي. وتتميز بكثافة سكانية عالية ووفقاً لبعض المصادر فإن عدد قاطنيها يتجاوز المليون نسمة. يجاورها مخيما “برج البراجنة” و”شاتيلا” للاجئين الفلسطينيين.
تاريخ الضاحية “ساحل النصارى“
وفقاً للكاتبة سلوى فاضل “كان السيد موسى الصدر أول من أطلق على الضاحية اسم (ضاحية المحرومين)، أما اليسار اللبناني فقد سماها (ضاحية البؤس)، وأطلق عليها (حزب الله) تسمية (ضاحية المستضعفين)”. وفي كتابه “الضاحية الجنوبية أيام زمان” يشير الكاتب محمد كزما إلى أن “الضاحية، المؤلفة من الشياح والغبيري وحارة حريك وبرج البراجنة مع حيها الفوقاني والمريجة، كانت سهلاً فسيحاً أخضر يقع بين صنوبر بيروت ونهر الغدير المار في صحراء الزيتون. أما بيوتها فكانت قليلة، متفرقة وموزعة بين البساتين وأشجار النخيل الباسقة ورباعات الصبير”. ويضيف أن “الشيعة سكنوا سهول الضاحية منذ مئات السنين، وفي فترة أمراء آل معن بدأت العائلات المسيحية بالقدوم إلى أطراف الضاحية، وسكنت هناك، ثم ازداد عددها في عهد الأمراء الشهابيين وبنت بيوتاً صغيرة لها بين البساتين في المريجة والشياح”.
ويقول مدير الأبحاث ومنسق الأرشيف في مركز “أمم للتوثيق” (أحد المراكز والمؤسسات التي عمل على تأسيسها الكاتب والمفكر اللبناني لقمان سليم الذي اغتيل في الرابع من فبراير “شباط” 2021)، عباس هدلا، في حديث مع “اندبندنت عربية”، ومن خلال عمله على أكثر من مشروع عن الضاحية، منها “البحث عن الضاحية” و(Collecting Dahiyeh) “إن الضاحية كان اسمها ومنذ عهد المتصرفية (ساحل النصارى)، قبل أن تتحول ومع إعلان دولة (لبنان الكبير) إلى ساحل المتن الجنوبي. ومن ثم تحولت إلى (الضاحية الجنوبية) بعد انتشار الضواحي حول العاصمة بيروت، حيث كانت مناطق النبعة، والكرنتينا وسن الفيل في الضاحية الشرقية لبيروت”. ويضيف “بداية، نزح إلى الضاحية أهالي الجنوب، لأن أهالي البقاع كانوا ينزحون إلى منطقة المتن الشمالي (حي الزعيترية) في الجديدة، وغيرها من المناطق القريبة من المدينة الصناعية للعاصمة، بما أن معظمهم كانوا من العمال، في وقت كان أهل الجنوب يعملون في بيروت، لكن السكن داخل العاصمة كان مكلفاً جداً، فبدأوا بالسكن في منطقتي حارة حريك والغبيري. وبما أن تلك المناطق كانت أراضي زراعية، فعملوا فيها”. ويردف هدلا أن “منطقة المريجة ما زال الناخبون فيها من المسيحيين، وأيضاً منطقة صفير التي أخذت اسمها من محطة صفير للوقود التي أنشئت في أربعينيات القرن الماضي، كما أن كل الضاحية الجنوبية وصولاً إلى الغبيري كان قاطنوها من المسيحيين، أما برج البراجنة فكانت مشتركة بين السنة والشيعة والمسيحيين. فقط منطقة الغبيري كانت تضم عائلات شيعية معروفة منذ ما قبل الحرب الأهلية كعائلتي الخليل وكنج. وفي حارة حريك عائلتا سليم والحركة، وفي برج البراجنة عائلة عمار، وعلى سبيل المثال عائلتا حاطوم والمقداد لم تكونا موجودتين”. ويشير هدلا إلى أن “منطقة الجناح تضم كنيسة قرب جامع الإمام موسى الصدر، وكان أهل حارة حريك يقيمون القداسات فيها. ومناطق مثل (السان سيمون) و(السان ميشال) في الأوزاعي كانت مسابح، وهي مرتبطة بالضاحية لا ببيروت”.
“التهجير القسري”
ويضيف مدير الأبحاث ومنسق الأرشيف في مركز “أمم للتوثيق”، عباس هدلا، أن “تهجير المسيحيين يرتبط بمرحلتين، ففي عام 1982 كانت الأحزاب اليسارية ما زالت مسيطرة، وكان مسيحيون يقطنون فيها، فكان لحزب الكتائب (ذو غالبية مسيحية) مراكز في حارة حريك والليلكي. لكن التهجير القسري بدأ بعد ذلك العام، أي بعد الانسحاب الإسرائيلي وانتفاضة السادس من فبراير 1984، حيث قتل بعض المسيحيين اليساريين، من أمثال ميشال واكد الذي خطف وقتل وكان يقطن في حارة حريك. وبعد تلك المرحلة بدأت عملية البناء العشوائي، والسيطرة على الأملاك من قبل المهجرين (الشيعة) واستمر ذلك إلى عام 1990. بعد ذلك العام أي مع انتهاء الحرب الأهلية، لم يستطع أحد من مالكي تلك المنطقة العودة واستعادة أملاكه بفعل سيطرة قوى الأمر الواقع أي الأحزاب الدينية (حزب الله وحركة أمل). أما الأراضي التي بني عليها فجرت في شأنها تسويات، مما حال دون استعادة الأملاك من قبل أصحابها، وأجبر أصحاب الأرض الشرعيون على بيعها”. ويتابع أن “حارة حريك تضم وحتى الآن 65 في المئة من الناخبين من المسيحيين، و35 في المئة من الشيعة، ولوائح الشطب في حارة المريجة على سبيل المثال لا تحوي أي اسم لناخب شيعي”. وتقول بعض المصادر إن معظم مسيحيي حارة حريك ينتمون إلى “التيار الوطني الحر” الذي يتزعمه النائب جبران باسيل. ويذكر أن رئيس الجمهورية السابق ميشال عون يتحدر من حارة حريك، وأبرز العائلات المسيحية هناك هي دكاش وواكد وكسرواني وشويفاتي.
الضاحية ما بين الأمس واليوم
تقول سيدة من سكان حارة حريك ولدت وتعيش هناك “إن سكان المنطقة مغلوب على أمرهم، هجرهم السلاح الفلسطيني في السبعينيات، وأجبر المسيحيين على بيع أراضيهم بأبخس الأسعار، واليوم السلاح والإيرانيون يهجرونهم”. وتتابع “أن الضاحية مكان معقد، وهناك احتلال الآن عبر الوجود التركي والإيراني الواضح في شوارعها الأساسية، فحيث اغتيل القيادي في حركة (حماس) الفلسطينية صالح العاروري في بولفار هادي نصرالله، توجد كثافة تركية وليست فارسية. وهناك تنافس بين الإخوان المسلمين ومن ورائهم تركيا، والإيرانيين. من هنا ليس من السهل شرح وتفكيك مفاصل الضاحية، وهي منطقة كبيرة تمتد من السان سيمون وصولاً إلى كفرشيما، وتضم مافيات الموتورات (مولدات الكهرباء الخاصة) إلى المربعات الأمنية التي تحيط بمكاتب الحزبيين، مما يضفي عليها تعقيدات وتفاصيل يصعب الحديث عنها”. وتردف تلك السيدة أن “المقارنة بين الأمس واليوم قد لا تصح، لأن وجه لبنان ككل تغير خلال الـ43 سنة الماضية”.
لا يمكن اختصار “الضاحية” بـ”المربع الأمني”
من المفيد الإشارة إلى أن معظم أهالي الضاحية الجنوبية اليوم يوالون “حزب الله، وهي تعتبر الخزان البشري للحزب. وكذلك ووفق مصادر عدة فإن مخازن الأسلحة التابعة له توجد هناك. ويتجاوز عدد المؤسسات التجارية والاقتصادية في الضاحية الجنوبية 37 ألفاً، ويصل عدد مستشفياتها إلى ثمانية، ويزيد عدد الفروع المصرفية فيها على الـ100. ويملك “حزب الله” مروحة واسعة من المدارس والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والطبية والخدمات التي يستفيد منها أنصاره. من هنا يأتي وصفها بأنها “دويلة” داخل الدولة، إن وجدت تلك الدولة.
وتقول السيدة من سكان حارة حريك، “من يجرؤ على نزع صور عماد مغنية (أحد أبرز القادة العسكريين لحزب الله) العملاقة؟ من يجرؤ على الاحتجاج على مكبرات الصوت طوال العام؟ وإن تجرأ يقتل”. وتتابع أنه “حتى الجيران القريبون من الجماعة (حزب الله) منزعجون من مكبرات الصوت”. وتشير إلى أن “هذه المنطقة التي تشبه عنقوداً من القرى، محرومة منذ زمن لأن رئيس مجلس النواب نبيه بري ليس منها، من هنا يركز على الجنوب، وربما لو كان رئيس المجلس من هنا لكان أعيد تسميتها ساحل الأمراء. بالنتيجة كلمة (ضاحية) ليست جميلة، لأنها كانت ما يعرف ببيروت الجديدة، وكان هناك مشروع لتطوير هذه المنطقة لتكون تتمة لبيروت، إذ إنها محاطة بشواطئ، وتضم حرش بيروت، أجمل منطقة مشجرة في العاصمة، وملعب الغولف وهو منطقة خضراء، ولا يصح أن تقارب من جهة أنها مركز العقل التابع لحزب السلاح، هي أوسع من هذا. والآن إذا دخلت إلى بولفار هادي نصرالله يستقبلك عند المدخل صالة للمفروشات التركية، وهي واجهة لجماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم يستقبلك متجر إيراني للحلويات والتمور والشاي”، وهذا ما تسميه تلك السيدة أنه “احتلال عبر المنتجات”. من هنا تضيف أنه “لا يمكن اختصار تلك المنطقة بالمربع الأمني، إذ إنها مكان للعيش ولكن العيش بحرية، واليوم الحرية مسلوبة في كل البلد، إذ يهيمن الديكتاتور بقوة سلاحه”. وتستدرك قائلة “إن هذه المنطقة تضم مختلف الفئات اللبنانية، ولكن اللون الواحد هو ما يروج له إعلامياً عبر التجمعات الجماهيرية، ولكن شوارعها تضم التنانير والشادور، وما زالت الضاحية تشبه لبنان، ولم يتمكنوا من تحويلها إلى ثكنة عسكرية”.
“أرض النازحين والمهجرين”
يقول الكاتب الصحافي يوسف بزي إن “الحرب الأهلية انطلقت من الضاحية، فكانت أرض النازحين والمهجرين، بقدر ما كانت ساحة تطهير طائفي ما زالت مفاعيله المؤذية حتى اليوم. ومن الخروج على الدولة إلى الفوضى السكانية والانفلات الميليشيوي، حتى أتى الاجتياح الإسرائيلي الذي توج عدوانيته في الضاحية بمجزرة صبرا وشاتيلا، ثم نكبت بالتدمير المدفعي خلال عامي 1983 و1984، وبعد ذلك اندلعت حرب المخيمات، إلى أن انفجرت حرب الأخوة، بين حركة (أمل) و(حزب الله)”. ويتابع أن “الضاحية هذه، التي أرادوا لها أن تبقى بعيدة من مشروع إعادة الإعمار وخطط دمجها بالعاصمة (مشروع أليسار)، كي تبقى خزاناً بشرياً للقتال، وعصبية مستنفرة، لم تحرم تماماً من ثمرات سنوات السلم، عمراناً واقتصاداً. لكنها بقيت هكذا محكومة بعقلية الحصن الأهلي المتوجس من جواره ومن الدخلاء”. وينقل الكاتب محمد أبي سمرا وهو أكثر من وثق شهادات من الذاكرة الشفهية اللبنانية لفترة الحرب الأهلية وما تلاها في الأعوام الأخيرة، عن “شبان وفتيان كثر في الرمل العالي، أنهم وعوا على الدنيا بعد حرب السنتين (1975-1976) فوجدوا حركة (أمل) مسيطرة على الحي، فانخرطوا فيها. وفي شهادة شاب من آل عواد في الرمل العالي أن الحركة إياها راحت تجتث المنتمين إلى حزب البعث العراقي الذي كان يضم شباناً متعلمين من تلك العائلة، فانسحبوا منه وعزفوا عن الانتساب إلى (أمل) التي انضم إليها غير المتعلمين من العائلة إياها. وكان أحد شبانها قد تلقى تدريباً عسكرياً في العراق، فصار ضابط مدفعية في (أمل)، وجمع حوله سرية من نحو 30 مقاتلاً من أقاربه. وعشية انتفاضة السادس من فبراير 1984، وأثناء حرب (أمل) ضد المسلحين الفلسطينيين في مخيم برج البراجنة الذي حاصرته، بدأ تفريغ شبان شيعة للقتال في صفوفها برواتب شهرية. لكن خشية الأستاذ نبيه بري من نفوذ آل عواد في الحركة، حمله على استبعادهم وإقصائهم، وتقريب وتقديم من يدينون له بالولاء من الجنوبيين ومن عائلتي المولى وحمية البعلبكيين. وعلى رأس هؤلاء عقل حمية الذي أمسى قائداً عسكرياً في حركة (أمل) أثناء الحرب على المخيمات الفلسطينية (1985). وكان إلى جانب حمية خمسة من إخوته. وحين قتل أحدهم في المواجهات حمله غضبه على محاولة إحراق المخيم المحاصر. وبحسب شهادة مقاتل في أمل آنذاك، وصف التعبئة والمواجهات مع الجيش اللبناني عشية انتفاضة السادس من فبراير على النحو الآتي: كلما كان يسقط قتيل من الحركة، كان يحمل مكشوفاً على خشبة غسل الموتى قبل دفنه، إما إلى مسجد الرسول الأعظم في الرمل العالي وإما إلى حسينية البرج، فتنطلق من المسجد والحسينية أدعية حسينية عبر مكبرات الصوت، فيتجمع الأهالي ويقيمون مجالس عزاء وندب”.