كتاب عطالله السليم: الحبّ في بيروت Online/Offline
النشرة الدولية – هالة نهرا –
يفتتح عطالله السليم كتابه “الحبّ في بيروت Online/Offline” (دار نلسن) بإهداءٍ يمتشقُ سيوف الطرافة الذكية والسخرية المُرّة من الذات والواقع المتصدّع معاً، التي ستشفّ تباعاً عن خيبةٍ عاطفية مضمرة ثمّ معلنة ومكشوفة في البوح اللمّاح المباشر: “إلى مئات فناجين القهوة التي احتسيتُها وأنا أنتظرهنّ/ إلى عشرات حبّات العلكة التي مضغتُها وأنا أنتظرهنّ”… فيما النبذة عن الكاتب كما يشتهيها هو يستهلّها باعترافه بأنه “نجا من محاولاتٍ عدّة لاغتياله عاطفياً” عارضاً بالتفاصيل ما يصبو إليه، مزاوجاً بين شغفه الراسخ في الروتين الصباحيّ في الاطّلاع السياسي والاقتصادي ومتابعاته العامّة، وبين الـ gel الذي يصفّف به شعره في موعدٍ غراميٍّ أو آخر، رغم تساقطه زحفاً نحو “الصلعة”، علماً بأنّ مدّة صلاحية برطبان “الجِلّ” في غرفته قد انتهت منذ زمنٍ بعيد!
هذا المدخل غير التقليديّ الممهور بالطرائف والمُلَحِ التي تُميّز شخصية عطالله التي يُقدّمها بشفافيةٍ وجرأةٍ مدروستين للمتلقّي العربي، يجرّ عيون القارىء إلى الصفحات التي تعقبه بتشوُّقٍ وديناميّة في التصفُّح. ومثلما أنّ مسائل السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في لبنان لا تسير بسياقٍ منطقيّ فكذلك هو الحبّ فيها، على حدّ تعبير الكاتب. ووفقاً لعطالله في سطوره فإنّ كتابه يجيب عمّا في السؤال التالي: “كيف سينمو حبٌّ في هذه المدينة (بيروت) وعبر “الديجيتال” وعوالم الحبّ الافتراضيّ؟ إنّ سؤالاً كهذا لا بدّ أن يستهوي القرّاء، لا سيما الشباب والجيل الجديد والجيل الوسطيّ، وصولاً إلى كلّ متصابٍ وعاشقٍ للحياة والحبّ، ولو قطع مسافةً زمنية كبيرة حتى لامسَ تخوم العمر، منتسباً إلى إيقاع ونبض العصر والفضاء الافتراضيّ الموازي للواقع والمتشابك والمتشبّك في آنٍ واحد، خصوصاً أننا نعيش في عالمٍ تربطه شبكة عنكبوتيّة واحدة لا تنفصل البتّة عن الواقع.
يوائم عطالله بين فضائه العاطفيّ والتظاهرات التي كانت تعمّ البلاد وقتذاك فيتوازى السياسيّ (بوصفه ناشطاً سياسياً) والغراميّ، مروراً بـ”بروتوكول” اللقاء الأوّل (المواعدة)، ثم آليات وأساليب التعبير عن الإعجاب والحبّ عبر “واتسآب” و”فيسبوك” وخصائصهما، ثمّ العودة مجدّداً إلى “الحراك” الجماهيري الكبير الاحتجاجيّ إثر أزمة النفايات التي تكدّست في شوارع بيروت عام 2015 وتوقه المتعاظم إلى الثورة، وصولاً إلى الاستعانة بمستشاري قضايا “الحبّ الجيو- إستراتيجي” حيث يعمل الجميع (!)، على حدّ تعبيره. هكذا تستمرّ الطرافة والظرافة في أسلوب عطالله الذي تخاله في كلماته ممدَّداً براحةٍ على الـChaise longue يُحدّث صديقه الطبيب النفسيّ الأمين أو الباحث أو عالم الاجتماع عن قضايا الحبّ والبلد وإشكالياتهما المترابطة، ليساعدهم بدوره في تشريح الحقيقة وما يُمكن أن يُستنبَط في فلكها.
لا ينسى الكاتب بلورة الفارق بين الإشارات التي ترسلها الفتاة/ المرأة التي تتراوح بين زجّ الرجل في خانة الـFriend Zone (كمئات وآلاف الأصدقاء)، وبين إشارات الإعجاب أو الهيام من جهةٍ، والإشارات المحيِّرة من جهةٍ أخرى. ذلك أنّ ما تخاله حبّاً قد يكون مجرّد “إرادة كسب الانتباه” وتعزيز الـEgo، وبهذا يحلّل عطالله بعين علم النفس، شارحاً أيضاً أنّ الحبّ علاقةٌ تبادلية، فيما تتأتّى تقاليدنا عن منظومةٍ قيمية رأسمالية، غائراً في أبعاد المسألة عمقاً، واصفاً بيروت بأنها مدينة العشق والإحباط معاً، علماً بأنّ “التناقض الطائفيّ يلعب عاملاً أساسياً في شبكة العلاقات العاطفية في لبنان” وثمّة مَن يتحرّرُ ههنا من القيود هذه ومَن يحاول… ونتيجةً “للعلاقات المأزومة في مدينةٍ مأزومة وسط مجتمعٍ مأزوم يصبح الحبّ أزمة قلبية!” في نظر الكاتب.
لا يحتاج الكتاب إلى تأويلاتٍ واجتهاداتٍ لاكتناه جوهره ولا يحتمل التفلسُف النقديّ؛ فعطالله قد خلع معاطف الغموض وتخفّف كلّياً من المبهَم والملتبس ليرتدي وضوحه البرّاق ولإيضاح الصورة، سواء في بانوراميّتها أم في تفاصيلها الصغيرة والصغرى. إنّ البساطة في الكتاب غير مفارِقة للتعميق والرويّة، فيما يترجّحُ الأسلوبُ بين الشبابيّ إنْ لغةً (وعباراتٍ) أو لهجةً نموذجاً في التلقائيّ المتداوَل أو نبضاً وعصباً، وبين السلاسة الرائقة الممتعة المتدثرة بالطزاجة.
كتاب “الحبّ في بيروت Online/Offline” خفيف الظلّ في وقْعه، وصادقٌ بسهولةٍ وانسيابٍ تعبيريَّيْن لا يتوسّلان بالتطويل والبلاغة في زمنٍ لاهثٍ وهاربٍ، ويمكن تشبيهه بثيابٍ تندرج في خانة الـ Sport Chic. إنه أسلوب عطالله حيث تَتَمَرْأَى شخصيّته بلا أقنعة وتُفلَش زبدة تجربته المكتنزة في معاجن التعبير. إنّ الحفر في الكتاب عن أعماق الحبّ في البلد وانخسافه في تمظهراته البيّنة هو بحثٌ من نوعٍ آخر عن الحبّ الحقيقيّ والبلد، وعطالله يصادقُ القارىءَ في جسارة الإفضاء المُدَوْزَن الذي لا يتخطّى الحدود ولا يُسمّي ولا يُضجرُ، ولا يدّعي ولا يُعقّد ولا يستذكي، ولا يصطنع ولا يتكلّف ولا يستعرض، ولا يقع في مطبّ الذكورية و”الدونجوانية” و”العنتريّات” السخيفة المفبرَكة المكرورة، وبذلك يُعَدّ الكتاب ناجحاً و”لذيذاً” وفريداً باتّقاد صدقيّـته ونقائه ومعانيه وبنجاح كاتبه الشابّ اللبيب، ووثّاباً إلى مراتب نفْس القارىء النجيب.