“إعلان بكين”: ما يرى وما لا يرى
بقلم: وليد فارس
باتت إيران الآن في موقع معقد: الثورة الداخلية من أمامها ووعد السلام مع العرب من ورائها أما اليد الممسكة بالمعادلة فأصبحت سعودية
النشرة الدولية –
لا يزال الرأي العام العربي والإسلامي يهضم ما جرى في بكين من إعلان عن اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران والإعلانات المتبادلة التي تلت والتطورات المقبلة التي سوف تنتج عن هذا الإعلان. ويترافق “إعلان الوساطة الصينية” مع تطورات متسارعة أخرى، بعضها بدأ قبل بكين ومعظمها لا يزال يتوسع بعد خطوات التطبيع، وأهمها زيارة بشار الأسد إلى الإمارات وإعلان البحرين إعادة العلاقات مع النظام الإيراني.
كل ذلك يحدث أمام رأي عام أميركي ضائع داخلياً حيال الصراعات السياسية والحزبية، لا سيما الأزمات القضائية وآخرها ملف ملاحقات الرئيس السابق دونالد ترمب. أما الأوساط المتابعة للسياسة الخارجية ولملف المواجهات بين المنطقة وإيران، كانت داخل البيروقراطية أو في القطاع الخاص، فهي لا تزال تعاني صدمة جراء هذه التطورات المتسارعة “غير المنتظرة” المنبثقة من الإعلان. وأهم نقطة تساؤل كانت ولا تزال أسباب الموقف السعودي، وبكلام أدق أهداف الاستراتيجية الجديدة.
وحاولت في مقالتي السابقة أن أبيّن بعض ملامح الصورة للموقف السعودي، بناء على ما يرى وتكهناً لما لا يرى، لكنني سخرت جهداً مماثلاً لتحليل الموقف الإيراني الذي يحتوي أيضاً على ما يرى في طهران وما لا يرى. فمستقبل الاتفاق سيحدده أداء النظام وممارساته والتزامه بالتنفيذ.
ظاهر الموقف الإيراني
بعد إعلان بكين، سارعت طهران إلى تظهير الصفقة وكأنها “انتصار إلهي” مجيد حققته جمهورية الخميني على أخصامها جميعاً وبضربة ذكية واحدة. وبينما حافظت الصين والسعودية على رصانتهما الدبلوماسية المعهودة، خرجت إيران إلى داخلها والعالم بفلكلور إعلامي وخطابات حماسية، وكأنها قامت بفتح سياسي عظيم لا بد من تهنئتها على إنجازه. وترافق ذلك مع تأكيدات أنها فرضت الواقع الجديد بصمودها وانهيار الولايات المتحدة وانسحابها من المنطقة وعودة الوحدة للعالم الإسلامي عبر “ريادة القيادة الإيرانية”.
ومما يفهم من خلاصة الخطاب الإيراني ما يلي، أن صمود النظام سنوات طويلة أمام الطوق الأميركي والحملات الإسرائيلية وأمام موجات الانتفاضة الداخلية والتصدي العربي، وفي قلبه السعودية والتحالف، يفسره منظرو النظام أنه بفضل ممانعة القيادة الخمينية تراجعت الولايات المتحدة عن محاولاتها لقلب النظام واقتنعت دول التحالف العربي “بعبثية” مواجهة إيران في المنطقة وذهبت تركيا في اتجاه آخر وبدأت الاحتجاجات تنطفئ، زد إلى ذلك صمود روسيا على جبهة أوكرانيا ضد الغرب وثبات الصين أمام واشنطن.
هكذا علل الإيرانيون مقاربتهم الجديدة في العلن وأضافوا أن قواتهم باتت تحصل على أفضل الأسلحة والذخيرة والصواريخ الروسية والصينية وستتمكن من إقامة نظام دفاعي مضاد سيمنع إسرائيل، وربما أميركا، من الحسم عسكرياً على إيران، وفي المقابل سيتمكن النظام من توجيه ضربات مضادة لإسرائيل والقوات الأميركية في المنطقة، بالتالي للدول العربية، بخاصة الخليجية، وتهديد اقتصادها. بناء على هذه “التأكيدات الافتراضية” عللت إيران أنها ربحت حرب الصمود وأنها ستتحول إلى المرجع الجديد إقليمياً، تتوجه إليه دول المنطقة للاستقرار والتسوية، بما فيها السعودية وشريكاتها.
بخلاصة، طهران ادعت أنها “انتصرت” وستكون متسامحة مع أخصامها وباتت تضيف أنها مستعدة لمحو الماضي وطي الصفحة والانطلاق إلى تجديد “الوحدة الإسلامية” التي حاولت أميركا “تفتيتها”. هكذا فسرت القيادة الإيرانية نجاحها في فرض قرار سعودي – عربي يقبل بالتسوية السلمية وبإعادة العلاقات الدبلوماسية والابتعاد عن الالتحاق بواشنطن، حتى الوصول إلى تطبيع كامل مع طهران، وربما الأهم، الحصول على استثمارات خليجية في قلب إيران، على رغم “العقوبات” الأميركية. هذه القراءة هي الرواية الرسمية في طهران، لكنها قراءة السطح. أما في العمق، فهناك قراءة أخرى.
حقيقة الموقف الإيراني
هذا الوصف الذاتي لا يعكس حقيقة ما جرى ويجري للنظام، مما فرض عليه. فإيران كانت، ولا تزال، على رغم قمة بكين، على شفير هاوية داخلية، ستحتاج إلى أكثر بكثير من تطبيع مع جيرانها لتتفاداها. ففي اليمن فشل الحوثيون منذ دحرهم من عدن وخسارتهم جزءاً من الساحل على البحر الأحمر، في مد نفوذهم على كل اليمن، فلجأوا إلى الصواريخ الباليستية لقصف السعودية، لكن تزايد الغارات الغربية على سفنهم المحملة بالأسلحة في عرض البحر هددت بحصار محكم على ميليشيات طهران كمقدمة لتراجعها.
في سوريا تكثف القصف الجوي الإسرائيلي على المواقع الإيرانية الصاروخية والميليشياوية، مما أضعف كثافة تسليح “حزب الله” في لبنان. وفي هذا الأخير قرأت القيادة الإيرانية رسائل تصدي الأهالي لحزبها في مناطق لبنانية عدة كمؤشر إلى احتمال انفجار مقاومة مسلحة ضد الميليشيا تقحمها بوحول عميقة وصعبة. وفي العراق وإلى حد ما في شرق سوريا توطدت العلاقات بين المناطق الكردية وبعض القبائل العربية مع الأميركيين، فبات جسر “الهلال الخصيب” بين إيران وساحل المتوسط غير آمن بالكامل للإيرانيين.
لكن أخطر ما تطور في الأعوام الماضية كانت ثورات شعبية ضد الهيمنة الإيرانية من طهران إلى بغداد فبيروت، وهي حركات انتفاضية لم تهدأ وربما تنفجر من جديد. أما قمة الخطورة، فكانت ولا تزال الثورة المستمرة داخل إيران منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. وتابع النظام تصاعد الاهتمام الغربي بها، أكان في أوروبا أو في أميركا. لذا فالموقف الإيراني الحقيقي ليس “انتصارياً” كما تصفه طهران ولكن “شبه انهياري” كما هو عملياً.
من هنا ومن هذا الواقع المتهاوي، وقبل أن يصل إلى مرحلة التخبط، قررت القيادة الإيرانية أن تتراجع عن إحدى الجبهات، الأكثر صعوبة، وهي المواجهة مع السعودية والتحالف العربي لتخفف اللهيب من حولها، فتتفضى لكسر الثورة الداخلية، وهي المرض الذي يضرب جسمها. من هنا فالتطبيع الذي رعته الصين (وهو تحت المراقبة) لم يكن حاجة سعودية وعربية، بل حاجة ماسة للملالي. فإيران بحاجة إلى التهدئة مع العرب وليس العكس، واتفاق التطبيع هو أوكسجين تحتاج إليه طهران وليس التحالف العربي.
من هنا وفي خلاصة تحليل استراتيجية النظام، اقتنعت إيران بتقديم تنازلات واسعة للسعودية لتنقذ ذاتها من شعبها. فأعلنت قبولها بوقف الاعتداءات على السعودية وسائر اليمن والخليج ووعدت بتقليص نفوذها في مستعمراتها العراقية والسورية واللبنانية لقاء “سلام” مع الخليج.
لقد وعدت بالكثير، وحسبت بأنها قادرة على السيطرة على إمبراطوريتها لقاء التهدئة التي تسعى إليها. وباتت الآن في موقع معقد. فالثورة الداخلية من أمامها ووعد السلام مع العرب من ورائها. أما اليد الممسكة بالمعادلة، فباتت سعودية. إيران اعتقدت بأنها قادرة على الخروج من محنتها عبر صفقات بكل الاتجاهات، سنرى إذا كان ذلك ممكناً. لعل الضامن الأكبر لها هو الصين، فهل بكين قادرة على حل كل المشكلات التي تسببت بها إيران؟ لنرَ في مقالة الأسبوع المقبل.