امتحان احترام السيادة في الاتفاق السعودي – الإيراني
بقلم: طوني فرنسيس

كلمة خامنئي خلال خطاب النوروز ستكشف مستوى التزام طهران تنفيذ بنود بكين

النشرة الدولية –

احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، هو البند الذي يشكل صلب نص الاتفاق المعلن في بكين بين السعودية وإيران برعاية جمهورية الصين الشعبية.

هذا البند سيكون على مدى شهرين تحت المجهر ليكون التزام تطبيقه تمهيداً لعودة العلاقات الدبلوماسية الطبيعية بين الرياض وطهران، وفتح الطريق أمام مرحلة جديدة من الاستقرار والازدهار في عموم المنطقة.

احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، يطرح على القيادة الإيرانية مسؤوليات أساسية، فهي المعنية مباشرة بهذا العنوان لأن سياستها منذ قيام سلطتها قامت على “تصدير الثورة” المذهبية وخلق تيارات وتنظيمات تابعة وموالية في بلدان المشرق العربي والجزيرة العربية وصولاً إلى بلدان أبعد في أفريقيا وآسيا.

كل ذلك يتعارض مع مبدأ السيادة، وأي اتفاق مع إيران لا يمكنه إغفال ممارسات طهران التوسعية وكيفية وضع حد لها عبر تطبيق البند الأبرز في بيان بكين.

أسفرت خمس جولات من المحادثات في العاصمة الصينية عن اتفاق معلن وبنود بقيت سرية، بحسب ما صرح مسؤولون. لكن لا يصعب فهم المقصود بالبنود السرية، عندما نتحدث عن المطلوب من إيران لتستعيد علاقاتها الطبيعية بمحيطها. وهذا المطلوب هو تحديداً التزام القانون الدولي وعدم التدخل في شؤون الدول العربية والكف عن التلاعب في تركيب مجتمعاتها وعن تسليح وتنظيم الميليشيات المذهبية وتمزيق النسيج الوطني لبلدان عدة.

كان مطلب وقف التدخلات الإيرانية دائماً في صميم السياسة السعودية والعربية على مدى الأعوام الماضية، فتعرضت في المقابل لوابل متصاعد من حملات العداء السياسية والإعلامية، ولاعتداءات مباشرة على حدودها وأراضيها، نفذتها منظمات تعمل بتوجيه إيراني في اليمن والعراق ولبنان. لم تغيّر هذه الاعتداءات في تمسك المملكة بموقفها المبدئي من طبيعة علاقات الجوار المطلوبة، فيما كانت تدخل بقوة في عملية بناء وتطوير وازدهار ضمن خطط رؤية 2030 التي وضعها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وتواجه في الوقت نفسه محاولات الاعتداء والفتنة.

كانت القيادة الإيرانية تفتخر منذ زمن بسيطرتها على أربع عواصم عربية، لكن حديث دبلوماسييها ينفي ذلك ويكرر في المقابل تصريحات الود عن الدول الشقيقة. كان ذلك هو الفرق بين الدبلوماسية والميدان الذي جعل جواد ظريف يبدي اعتراضه على هيمنة عسكريي قاسم سليماني على السياسة الخارجية.

وصلت التدخلات الإيرانية إلى ذروتها في دول الجوار، لكن مشكلات النظام الداخلية تفاقمت اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وبدأ خبراء وسياسيون إيرانيون يبحثون في البدائل. خارجياً تعطل البحث في تجديد اتفاق 2015 النووي، وتعقدت علاقات عدم الثقة بين طهران ووكالة الطاقة الذرية الدولية، وتصاعدت العقوبات الأميركية والأوروبية ضدها، خصوصاً بعد اتهامها بدعم روسيا في حرب أوكرانيا.

كانت طهران تحتاج إلى متنفس، والسعودية التي دعت منذ زمن طويل إلى علاقات طبيعية بين البلدين، كانت مستعدة للدخول في عملية جدية لاستئناف العلاقات بعد اتصالات بين الجانبين في بغداد ومسقط. ما جرى لاحقاً “يشير إلى سياسة سعودية خارجية حاسمة بشكل متزايد، تسترشد أولاً وقبل كل شيء بالمصلحة الوطنية” على ما جاء في تقرير نشرته “بلومبيرغ”. فـ”قرار السعودية إعادة العلاقات مع إيران، يدخل ضمن مقاربة الرياض الجديدة التي تعتمد على ضمان استقرار المنطقة لإنجاح رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان”. يوضح الخبير السعودي هشام الغنام الذي شارك في جولات المفاوضات السابقة مع إيران أن “المملكة لديها مشاريع ضخمة واستثمارات كبيرة ولا تريد تصعيداً في المنطقة”.

كسبت السعودية قوة أكبر في أسواق الطاقة وارتفعت مداخيلها النفطية، وحلت “أرامكو” في مقدمة أكبر شركات النفط والغاز في العالم مع أرباح محققة عام 2022 بلغت 161 مليار دولار. كانت السعودية أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً العام الماضي، ويشمل ذلك القطاع السياحي حيث يضخ صندوق الاستثمار السيادي الدعم لتحويل البلاد إلى وجهة ثقافية وسياحية، ضمن مسعى المملكة لتنويع مصادر الدخل والتقدم إلى مصاف أكبر 15 اقتصاداً في العالم.

كانت إيران بحسب تقرير لـ”رويترز”، “تحاول منذ عامين استعادة العلاقة مع السعودية لإنهاء عزلتها السياسية والاقتصادية”.

 

وقال مسؤولان إيرانيان للوكالة إن “المرشد علي خامنئي نفد صبره في سبتمبر (أيلول) الماضي حيال بطء وتيرة المحادثات الثنائية، واستدعى فريقه لمناقشة سبل تسريع العملية، مما أفضى إلى تدخل الصين”.

قالت السعودية رأيها بوضوح قبل الاتفاق وبعده، وفي الاتفاق يختصر بند احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها جوهر موقفها. هي ناقشت وفاوضت باسم المجموعة الخليجية وباسم المجموعة العربية كلها. استجابت للمبادرة الصينية نتيجة علاقات الصين المتينة بالطرفين. لم تكن أوروبا قادرة على لعب هذا الدور ولا الولايات المتحدة. هؤلاء وقفوا تاريخياً إلى جانب المملكة في أوقات صعبة، ووقفت المملكة إلى جانبهم في علاقات تحكمها مصالح سياسية واقتصادية وأمنية عميقة وتاريخية. اعتبر هنري كيسنجر في حديث عن موقف بلاده من الاتفاق أن “الولايات المتحدة شقت الطريق إلى التقارب، لكن الصينيين قصوا الشريط”. كان يقصد أن أميركا وقفت دائماً إلى جانب السعودية حتى لحظة الوصول إلى الاتفاق.

يقضي هذا التصريح على محاولات وضع بكين في وجه أميركا والغرب، وهو ما سارعت إلى تعميمه وسائل إعلام في طهران. الصين نأت بنفسها عن هذا المنطق. كانت مفاوضات بكين في يومها الثاني، ولم يعرف في شأن انطلاقها أي من وكلاء إيران في المنطقة، عندما أعلن وزير الخارجية الصيني أن بلاده “تحترم تماماً دول الشرق الأوسط بصفتها سيدة شؤونها، وليست لديها نيّة لملء ما يسمى الفراغ، ولن تبني دوائر حصرية في المنطقة”. ازداد اهتمام الصين بالشؤون الأمنية في الشرق الأوسط منذ زيارة الرئيس شي جينبينغ إلى الرياض، وفي الشهر الماضي أصدرت بكين وثيقة مفاهيمية حول مبادرة الأمن العالمي، تظهر أن الصين لا تسعى فقط إلى تعاون براغماتي اقتصادي، وإنما تقدم بعض الأفكار في شأن معالجة الشؤون الأمنية وتدعو إلى استخدام “مفهوم أمني جديد لحل القضايا الأمنية في المنطقة في إطار هيكل أمني مشترك وشامل ومستدام”. في هذا الإطار قد تكون المساهمة الصينية في بلورة الاتفاق السعودي – الإيراني خطوة عملية أولى سنداً إلى روحية وثيقة فبراير (شباط)، والخطوة الثانية هي مشروعها بنقاطه الـ12 من أجل وقف الحرب في أوكرانيا الذي سيكون موضع بحث خلال زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو.

أنجز بيان بكين العربي – الإيراني وآن أوان التنفيذ. يمكن اعتبار إعادة فتح السفارتين أسهل الخطوات وإشارة إلى العزم على جعل التواصل طريقاً لتذليل الصعوبات، لكن هذه الخطوة ستكون تتويجاً لمسار وليس افتتاحاً له. هذا ما تقوله مهلة شهري حول امتحان النوايا، الامتحان بدايته في وقف حملات التحريض والشروع في تسهيل الحلول في المنطقة بدءاً من اليمن ثم لبنان، ففي البلدين تنفرد إيران بالقرار وجوابها لا يحتمل المماطلة وسلوكها في شأنهما سيختصر فهمها لمبدأ عدم التدخل ويحدد مستوى نجاح الاتفاق أو فشله.

رحب البلدان والعالم بحصيلة بكين، لكن أسئلة لا تزال مطروحة حول حقيقة مواقف القوى في إيران منه. فالحرس الثوري لم يأت على ذكره ولا فيلق القدس، ذراعه في العالم العربي.

بعد الإعلان عن الاتفاق، حرص وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان، رداً على حملات استهدفت الأدميرال علي شمخاني، على نفي وجود خلافات داخل القيادة الإيرانية، وقال إن ممثلي الخارجية كانوا إلى جانبه في بكين وأبو ظبي، وتطوع المتحدث بلسان الخارجية للقول إن صانع الاتفاق هو الجنرال قاسم سليماني، وقدم رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبدالمهدي رواية طويلة في هذا الخصوص. ربما كان الهدف من ذلك “إقناع” الحرس والمعارضين في النظام بـ”شرعية” الاتفاق، وأن سليماني كان يسعى إليه، وهذا هو المراد على الأرجح، غير أن الكلمة الأخيرة لتبيان مستوى الالتزام الإيراني ستكون لخامنئي في خطابه بمناسبة عيد النوروز، فما سيقوله سيكون حاسماً على المستوى الإيراني الداخلي والسلوك الإيراني اللاحق، وسيتبعه على الأرجح بيان من الحرس الثوري يأخذ في الاعتبار ما سيقوله الرئيس الأميركي جو بايدن للإيرانيين في المناسبة نفسها، مناسبة رأس السنة الفارسية.

زر الذهاب إلى الأعلى