التطورات الاقتصادية على قرع طبول الحرب
بقلم: د.جواد العناني
النشرة الدولية –
الحرب الكلامية بين روسيا من ناحية وأعدائها في حربها على أوكرانيا أعلى صوتاً وأشد نكيراً من حرب المدافع. لا يكاد يمر يوم واحد دون أن تصدر تصريحات عن مسؤولين كبار في البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية ووزارة الدفاع ضد روسيا.
وكذلك الحال من قبل المسؤولين في أوروبا والاتحاد الأوروبي والناتو. ووسط هذا كله أدمن الرئيس الأوكراني الكلام وحب الظهور على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام حتى يكاد يصبح أحد أبطال شركة “مارفل” المنتجة لأفلام الأبطال الخارقين.
والصراع الكلامي يمتد إلى كل ما يمكن الحديث عنه من تزويد بالسلاح لأوكرانيا، وعن تقديم الأدلة غير الراسخة عن قرب انكسار الجيش الأوكراني أو الجيش الروسي، وعن استعانة روسيا بقوات “فاغنر” المرتزقة، وعن صُعوبة احتلال الروس لمدن في أوكرانيا مثل “باخموت”. ونسمع ردوداً من الروس أن تزويد أوكرانيا بالصواريخ والدبابات هو رفع لدرجة التوتر ومشاركة مباشرة في الحرب من قبل الناتو، وأن الطائرة المسيرة التي سقطت فوق البحر الأسود كانت تتجسس على روسيا، وأن رفع قضية على الرئيس فلاديمير بوتين لارتكاب جرائم حرب هو عداء سافر، واستغلال للمحكمة الجنائية الدولية وتسييسها.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن جانبي النقاش والمهاترة قد أصبحا جزءاً من معركة الانتخابات الأميركية القادمة. فالرئيس السابق دونالد ترامب يتهم إدارة الرئيس الحالي الديمقراطي جو بايدن بأنها بضعفها قد دفعت روسيا دفعاً إلى أحضان الصين، وأن من الجنون الاعتقاد أن روسيا يمكن أن تهزم أو تضعف بفعل الحرب الأوكرانية.
ويمضي الرئيس ترامب ليؤكد أن المملكة العربية السعودية صديقة الولايات المتحدة وحليفتها قد وجدت الفرصة في ضعف الإدارة الأميركية الحالية لتعزز علاقاتها الاقتصادية مع الصين، وتصل إلى إعادة تطبيع لعلاقاتها مع إيران، وهما أمران ما كان يمكن أن يحصلا لو بقي هو (أي ترامب) رئيساً للولايات المتحدة.
ونرى في الوقت نفسه التطورات في تركيا تأخذ مسارات جديدة. فالأحزاب المعارضة التي وصلت إلى مرحلة الانشقاق تجمع بعضها واتفقت على مرشح واحد يمثلها أمام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وبالمقابل، يحاول أردوغان أن يرد على اتهامات المعارضة له بالدكتاتورية والاستبداد بالرأي بموافقته أخيراً على دخول فنلندا في عضوية الناتو، بينما يتشدد في موقفه حيال السويد. والملفت للنظر هنا، كما أكد لي سياسي فنلندي قبل أيام في العاصمة عمّان، أن فنلندا عضو في الاتحاد الأوروبي وليست عضواً في الناتو، أما تركيا فهي عضو في الناتو وليست عضواً في الاتحاد الأوروبي. ولا تستطيع أيّ من المنظمتين ضم أي دولة إلى عضويتها بدون إجماع الدول الأعضاء كلها. ولذلك فإن تصويت تركيا الإيجابي لعضوية فنلندا في الناتو قد يتزامن مع موافقة فنلندا على عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.
أما بالنسبة للسويد، فالأمر مختلف، ولتركيا شكاوى سابقة على السويد. وقد يتطلب الأمر وقتاً قبل أن يصل الطرفان إلى توافق. ولكن موافقة السويد على عضوية تركيا في الاتحاد لن تكون مضمونة النتائج بالنسبة لأنقرة، لأن هناك دولاً أخرى ما تزال تتحفظ على عضوية تركيا، خاصة اليونان وبلغاريا، وبولندا، وهنغاريا.
ومن ناحية أخرى، فإن أردوغان يسعى لتطوير علاقاته مع مصر التي زارها وزير خارجيته خلال الأسبوع الحالي، ويأمل في عودة العلاقات السياسية والتجارية معها. وإن نجحت هذه المساعي فلا بد أن يثور السؤال: هل هذا التوافق (وليس التحالف) التركي المصري سيكون رداً على احتمالات التآلف الإيراني السعودي؟ وهل سنرى في المستقبل صراعاً على النفوذ في منطقة وسط آسيا بين تركيا بتأييد مصري وإيران بموافقة غير معلنة من قبل المملكة العربية السعودية.
أما إسرائيل، فيبدو أن الفوضى والتشويش الذي خلقته داخل الشرق الأوسط قد بدأ يرتد عليها. وفي مقال نشره توماس ل. فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز يوم 14 مارس (آذار) بعنوان “بوتين ونتنياهو يقدمان الدليل على حصول أمور سيئة للقادة السيئين”.
ويؤكد فريدمان أن كلا القائدين اللذين أصيبا بعمى الغرور قد ارتكبا أخطاء فادحة بسبب رؤيتهما الخاطئة، فكلاهما اعتقد أنه لاعب شطرنج لا نظير له على الساحة الدولية، فتبين أنهما في أحسن الأحوال لا يزيدان عن لاعبي “ضاما” عاديين. فقد أخطأ كل منهما في تقدير ردة الفعل على قراراتهما ما وضعهما أمام معضلات قد تؤدي إلى وفاتهما أو انتهاء طموحاتهما السياسية إلى الأبد. ومع أنني اختلف مع السيد فريدمان في قراءته لموقف بوتين، إلا أنه في معضلة، وإن كانت أوسع بكثير من الحلقة التي تمسك بنتنياهو.
ورأينا بعد ذلك تعليقاً من وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر على الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية بأن هذا حدث مهم وتاريخي لأنه أدخل الشرق الأوسط برمته إلى تعدد الأقطاب الموجودة فيه. ولم يعد الإقليم خاضعاً لقطب واحد، وهو الولايات المتحدة، وأن على الجميع أن يبدأ في التأقلم مع هذا التطور الجديد.
وتقوم الولايات المتحدة بإعادة تموضع قواتها في المنطقة العربية. وواضح أن دولة كالأردن سوف تصبح منطقة عسكرية استراتيجية لكل من الولايات المتحدة وبعض أعضاء حلف الناتو البارزين أمثال المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا. والسبب هو أن الأردن الذي تبدو حدوده مرسومة بيد بيرسي كوكس وهو مخمور، إلا أنها في واقع الحال كانت تشكل حاجزاً بين الخليج وإسرائيل وسورية، وتقع على حدود فلسطين والسعودية والعراق وسورية، وقريبة من مصر ودول شرق أفريقيا
إعادة التموضع الأميركي تثير أسئلة كثيرة عن مستقبل المنطقة وعن المخططات التي تصاغ في ظل التعددية القطبية الدولية. وهل سيكون المخطط الأميركي الوصول إلى اتفاق سلام يجمع الأردن وفلسطين وإسرائيل؟ ولكن كيف يمكن أن يحصل هذا كله في ظل التوتر الذي تخلقه حكومة المتطرفين في إسرائيل، وعودة الروح للمقاومة المسلحة في الضفة الغربية؟ وهل من المعقول أن يبقى الحال في قطاع غزة على ما هو عليه؟
وحتى تنجح الخطة، فلا بد إذن من أن تتفق كل من روسيا وتركيا على انسحاب القوات التركية من شمال سورية. وقد صرح بذلك الرئيس السوري بشار الأسد بعد لقائه مع بوتين قبل عشرة أيام.
وحتى تخرج تركيا من شمال سورية، فلا بد لروسيا أن تضمن عدم اعتداء مليشيات حزب العمال الكردستاني على تركيا. ولكن ماذا عن الوجود الأميركي والإيراني في سورية؟
وإذا كان الهدف الرئيسي للولايات المتحدة والناتو أن ينجحا في إدماج إسرائيل في المنطقة، فإن ذلك لن يكون ممكنا بدون دور أردني. وبقاء السياسة الإسرائيلية على حالها لن يشجع الأردن على الدخول في أي ترتيبات لتدوير إسرائيل في المنطقة. ومن الواضح أن اعترافاً بالحقوق السياسية للفلسطينيين يضمن لهم دولة ذات سيادة متلاصقة متجاورة وغير مجزأة، وإمكانات اقتصادية كافية، هو شرط أساسي للنجاح، ولن يقبل أحد من الدول ذات العلاقة المباشرة مثل الأردن والسعودية وفلسطين على محتوى الاتفاقات الإبراهيمية أو ما يشابهها.
إذا صحت القراءات واستطلاعات الرأي الأخيرة فإن 48% من الأميركيين يؤيدون الفلسطينيين مقابل 39% يؤيدون إسرائيل، والباقون مترددون، فهذا يعني تحولاً كبيراً في الرأي العام الأميركي. فكيف سترد إسرائيل عليه؟ هل سيهاجر اليهود العلمانيون والاقتصاديون الناجحون إلى دول أخرى، وتبقى إسرائيل دولة ريعية تخسر معظم عناصر نجاحها الاقتصادي؟
التحولات في المنطقة لم تعد ملكاً خالصاً لأي قوة وحدها، والأيام القادمة تتطلب قرارات مهمة. وإذا أدت الفوضى الحالية في الأسواق العالمية إلى انتكاسة اقتصادية عميقة، فلن يكون من السهل الخروج منها بدون شرق أوسط نامٍ ومتطور لجر عربة العالم الاقتصادية من الواقع الوخم الذي قد يجد نفسه قريباً واقعاً فيه.
ما جرى لبعض البنوك في الولايات المتحدة وسويسرا ليس إلا فقاعة بالقياس إلى ما يمكن أن يحصل إن لم يتوصل العالم إلى تفاهمات واضحة.