دراما تركيّة لجماهير عربية… عجز إبداعي أم “تسليع” ثقافي؟

النشرة الدولية –

النهار العربي – بثينة عبدالعزيز غريبي –

لماذا يتقبّل المشاهد العربي الأعمال الدرامية التي تحلّق به في عوالم “تخييلية” تقودها العواطف والرومانطيقية بعيداً من واقعه وقضاياه الأساسيّة ولماذا يتعلّق بها؟ لا يمكن لمتابع “عاقل” ألاّ يطرح هذا السؤال وهو يتابع “السوشيال ميديا” ويرى حالة “الانبهار” والشغف والتعلّق بمسلسل “الثّمن”، إلى حدّ الامتعاض والتذمّر من إيقافه في شهر رمضان المبارك، بغية عرض انتاجات محلية وعربية مخصصة لهذا الموسم.

وبما أنّ المسلسلات الجديدة ما زالت في حلقاتها الأولى، فمن المهم أن نتوقف عند المسلسل الذي أحدث ضجة خلال الآونة الأخيرة وحقق نسبة مشاهدات عالية، وهو “الثمن”، الذي يُعدّ نسخة درامية عربيّة لعمل درامي تركي.

يطرح “الثمن” قصة أرملة، تلتجئ إلى مديرها لإنقاذ حياة ابنها المصاب بالسرطان غير أنّ هذا المدير (باسل الخياط) يقايضها بالمال مقابل قضاء ليلة معه. وبعد أن يكتشف أنّه عرّضها للابتزاز لسبب نبيل في نظره يعلن حبّه لها ولا يدّخر جهداً لإرضائها.

لكنها تظلّ متردّدة لأنّ الاقتراب يعرّض حياة ابنها للخطر بسبب مشاكله مع أعدائه في العمل. واللافت أنّ الجمهور أحبّ “زين”، رغم شخصيته السامّة. فالمهم بالنسبة الى المتفرج أن تكتمل علاقة الحب هذه، كأنّ هناك حاجة ماسّة إلى العاطفة تعويضاً عن عواطف مفقودة في الواقع، ما يدفعهم الى التعلّق بقصص الحبّ في الدراما.

ولكن قبل تفكيك أسباب نجاح “الثمن”، من الضروري أن نتوقّف عند تأثيرات الدراما التركية على الدراما العربية.

دراما تركية لجمهور عربي

 في البداية كان هناك تذمّر من غزو الدراما التركية لشاشاتهم وإسقاط مجد نجاحاتهم. جزء من هؤلاء هم اليوم المبادرون باستنساح واقتباس وإعادة انتاج لقصص أعمال درامية تركية.

وكأنّهم يعترفون ضمنياً بأن المسلسل يصعب أن يستقطب الجمهور العربي من دون أن يتلوّن باللون التركي، وما عدا ذلك قد يبدو مغامرة لأنّ المسلسلات التركية صارت هي “الوصفة” لنجاح الدراما في السنوات الأخيرة.

ولهذا، غابت معايير الخصوصية والهوية المحلية عن بال المنتجين وصنّاع الدراما في المنطقة العربية وباتوا ينصاعون خلف أعمال “مستوردة” تحت شعار: “هذا ما يطلبه الجمهور”.

“الثمن” هو واحد من هذه الأعمال. وزاد من نجاحه أنه جاء بجرعة من “الرومانسية” والخيال ليساهم في ايجاد مساحة من الترفيه والمتعة وإبعاد المتفرح عن أزمات يومية، خصوصاً أن عرضه تزامن مع فترة ضاغطة وقاسية كالزلالزل والخوف من ارتداداتها، غير المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والصحية الأخرى.

ولا ننسى أنّ تكلّس المشاعر وجمود الحياة العاطفية والوجدانية والإنسانية أمام استفحال ظاهرة التواصل من بعد وحالة العزلة المتعمقة ببناء عوالم افتراضية وفضاءات تقيم معاييرها الجديدة على أساس “الروبوتيك”، يجعل من مسلسلات الحب على غرار “الثمن” أشبه بفضاء حالم.

يشبع “الثمن” إذاً هذا الاحتياج ويعيدنا إلى قيم مفقودة في المجتمع الحديث، ويروّج أيضاً لمجموعة من الصور الإنسانية مثل صورة العائلة المثالية المتماسكة وقت الأزمة.

ولاحظنا وجود العائلة أيضاً بمفهومها الرّمزي في العلاقات بين الموظفين داخل فضاء العمل واللحمة من أجل إنجاح المشاريع، وكأن “الشركة” هي إرث عائلي للجميع وليست فقط للعائلة.

وبذلك يقدّم المسلسل بديلاً غير صالح للتطبيق في الواقع ولكنّه يوهم المتلقي بإمكانية ايجاده ولو تخييلياً. هي محاولة لبناء إنسان البعد الأحادي الذي تذوب هويته أمام هويات أخرى. و”نذوب” مشاغله في حالة موقتة من التخدير والتنويم المغناطيسي ووأد للفكر. وهذه الدراما التي “يغرق” فيها الشارع العربي لعشريتين على الأقل، كانت سبقتها موجة مشابهة مع المسلسلات المكسيكية التي لا تبعد في مضامينها عن المسلسلات التركيّة. عالم مزيف ومغاير لواقعٍ يختلف في أولويّاته وهمومه وإشكالياته.

 

الثقافة الجماهيرية

تعيدنا دراسة هذه النوعية من الأعمال الدرامية التي تمتثل للثقافة الجماهيرية وتمتثل لها أيضاً هذه الثقافة، إلى مدرسة فرنكفورت ضمن نظريتها النقدية وتحديداً إلى مفهوم هيمنة وسائل الإعلام ودورها في سلعنة الثقافة وتشيئة الأفراد وذلك بمفعول التّصنيع الثقافي.

فالصناعة الثقافية “نموذج رائع لإفلاس الثقافة وسقوطها في التسليع”، كما يراها رائدا مدرسة فرنكفورت أدورنو وهوريكهايمر. بل ويذهب أدورنو إلى أكثر من ذلك وهو أنّ الصناعة الثقافية تنتج “الحاجات المزيفة التي يتم تثمينها وغرسها في أذهان الناس”، لتتكوّن بذلك ثقافة جماهيرية مبنية على التنميط واللامبالاة والنزعة الاستهلاكية. فتأتي الثقافة حسب مدرسة فرنكفورت: “سلعة كذوب تشكّل عمق الاستغلال”.

وبحسب تصوّر الفيلسوفة الألمانية حنّة أرندت عن علاقة المجتمع بالثقافة مقابل حاجته الأكيدة للتّرفيه، فإنّ “المجتمع الجماهيري لا يريد الثقافة، لكنه يرغب في الترفيه”.

ومن هذه الزاوية يمكن أن نفهم تعلّق الجماهير العربيّة بالأعمال الدرامية أكثر من تعلّقها بنشرات الاخبار، وتعلقها بالبرامج الإخبارية المبنية على الإثارة والفرجة والميل إلى تمييع القضايا أكثر من البرامج الجادّة وهذا معروف في نسب المشاهدة.

ففي تونس مثلاً القنوات التي تبث مسلسلات في توقيت نشرة الأخبار على القناة الوطنية تحظى بتزايد في نسب المشاهدة مقارنة بمنافسيها. وحتى على مستوى متابعة هذه المسلسلات فهناك تفاوت بحسب طبيعة العمل. ولعلّ المقياس الواضح في ذلك أنّه كلما مالت الأعمال إلى “بيع” الخيال لاقى إعجاباً من الجمهور، ولنا مثل واضح في ذلك وهو تعلّق المشاهد بأعمال الرعب.

إنّ التعامل مع العمل الدرامي كتلبية لمجموعة من الاحتياجات المفقودة لدى الجمهور في سياقات حديثة يجعل منه الأكثر جماهيرية من دون أي اعتبار للقيمة الجمالية أو للحذلقة الفنية. وقد فهم المنتج العربي تقنيات اللعبة الدرامية في سوقها الجديد من خلال تجربة الأعمال التركية. لكن متى سنجرؤ على تقديم أعمال درامية عربية تنافس الدراما الأجنبية وتستقطب الجماهير المهاجرة إلى شاشات غريبة عنه، من دون اعتماد التقليد وإعادة انتاج واستهلاك نفس “السلعة” الدرامية؟

 

زر الذهاب إلى الأعلى