وناسة البنزين!؟
بقلم: الأستاذة الدكتورة نهلة عيسى

النشرة الدولية –

نعود كل شهرين أو ثلاثة بالكثير, قبحها الله من عادة, للاصطفاف في طوابير “الونس” الممتدة إلى ما لا نهاية في وأمام وخلف وجانب محطات الوقود, نتبادل الأحاديث, والضحكات, والزفرات, والمشروبات, والبسكويت, وأرقام الهواتف, وأحياناً لا يخلو الأمر من تبادل الشتائم, والوصول إلى ما يشبه العراك والاشتباك الجسدي, لكن في حدود اتفاق غير معلن بيننا, أننا مجرد “كومبارس” في مسلسل هندي من أجزاء طوال, دورنا فيه يقتصر على انتظار وصول البطل الرئيسي, السيد “بنزين”!؟.

والغريب, أن هذا الوقوف الطويل لا يزعجني, بل يمتعني, ويخرجني من الروتين اليومي, وأجده فرصة لتأمل من حولي, ولفهم التغيرات التي طرأت على شخصياتنا جميعاً في ظل ظروف معيشية غير نمطية, وغير إنسانية, والتكهن بماذا يفكرون, ويشعرون, ويأملون, بل أنني أغادر سيارتي لأجلس على الرصيف بجانبهم, لأحظى بترحيب غير مسبوق, باعتباري غالباً ما أكون الأنثى الوحيدة التي تجرؤ على كسر “برستيج” السلوك الأنثوي القويم, ثم نتبادل السجائر, والمناديل الورقية لمسح غبار الطريق, وضحكات تبدو كالدموع, وتتعالى قهقهاتنا على اقتراح أحدهم بتبادل الأدوار لتأكيد وحدة الهدف والمصير!!.

والجميل في الأمر, أن هذا الوقوف القهري القسري, جعلني أزداد حباً للناس, للبلد, لكل التفاصيل التي تبدو ظاهراً ملطخة بدماء كراماتنا, لكنها في العمق, هي أشبه بإبرة حياكة تنسج أواصرَ من نوع جديد بيننا, أواصر تشبه الحلوى, حلوة ولينة, ومحشوة بقشدة التصبر, ومرشوشة بسكر الأمل, في هذا الوطن المكسر النوافذ, والمزروع في المسافة ما بين القلب والعين, والذي نتعامل معه جميعاً, كل واحد بطريقته, على أنه “بيت العائلة” القديم, الذي يعز علينا مغادرته أو بيعه, بحجة تردي جدرانه, أو مستوى الخدمات فيه!؟.

الجميل في الأمر, أننا ونحن في نهاية العام الثاني عشر من الوجع, ومصنفون وفقاً للتقارير الدولية, ترانزيت خطر وغير مرغوب فيه, والشك المفترس لصيق حقائبنا المعبأة بالسواد والحزن وصور الشهداء, وبعضاً من ذكريات نجونا بها من بلد, كان وطناً للياسمين والنسيم والفراشات الملونة والوجوه الضاحكة, وتاريخ سحيق يشير إلى أننا أول من دوَّن وقرأ وكتب وعزف وعاهد وباع واشترى وحكم, ما زلنا قادرين على الوقوف بانتظار بديهيات الحياة, السكر, الرز, الزيت, البنزين .. الخ, والأجمل أننا نحول الوقوف إلى محطة سخرية, ومنصة نكات, ودعوات بفرج قريب, ثم سلامات واتفاقات على موعد لنلتقي في المحطة لنكمل الحديث!!.

الجميل في الأمر, أنه رغم كثرة الأسئلة المرمية في وجهنا اليوم, وهي الأسئلة الأكثر وجعاً, لكن في المحطة اكتشفت أن قاع  هذه الأرض التي يكسو سمائها الآن دخان المرارة, كل يوم فيها “رغم الموت” هو عيد, وأن البلد الذي لم يتوقف عن نقش الموزاييك على علب البقلاوة وزنود الست, ولا عن غزل خيوط “الاغباني” المنسوجة بصبر لا تعرفه سوى الشعوب الراسخة في عراقتها وقدمها, والقادر على صناعة الحلوى وسط النار, قادر على النجاة, لأن الأوطان صناعة قلب, وشجر الحياة لا ينمو سوى في القلب, وعدا ذلك كل شيء حتى الحرب, يبقى مجرد تفاصيل.

ولأنني أيضاً موقنة أن هذا البلد لا يموت, لذلك بالنيابة عن قلبي وقلوب جميع السوريين في البيوت والشوارع وفي كل المحطات, أتمنى أن يعود الوطن إلى حضن جميع من صمد وصبر, لكي نسدل ستائر الصمم على نعيق الغربان, ونمهد بالحب ليوم إعلان الفرج القريب وأؤمن بأنه لابد آت, هكذا يقول قلبي, هكذا تقول قلوبنا جميعاً, هكذا يبشرنا العيد, فكل عام وأنتم وأوطاننا بخير.

زر الذهاب إلى الأعلى