الدّراما التّونسية تصوّر ما لا تراه “كاميرا” النّشرات الإخباريّة

النشرة الدولية –

النهار العربي – بثينة عبدالعزيز غريبي

في العادة نتندّر بعبارة “الجمهور عاوز كدا”، رغم اقتناعنا بأنّ الميديا هي التي تصنع الجمهور لا العكس. ولكن إذا تأملنا العلاقة بين وسائل الإعلام ومتابعيها، فلا بد أن نسأل: هل يمكن للميديا أن تصنع الجمهور من دون الإصغاء له وطرح قضاياه في برامجها ومسلسلاتها؟ ثم هل دور الدراما كعمل فني وأداة اتّصال هو تقديم البديل المسقط على الجمهور أو أن تعتبر هذا الجمهور شريكاً معها في الحلّ فتستفزّ فكره شكلاً ومضموناً؟ يبدو أنّ الأعمال الدرامية التونسية التي حازت نسب مشاهدة عالية قد نجحت في الإجابة عن تلك الأسئلة. ومن هذه الأعمال: مسلسل “الفلوجة” للمخرجة سوسن الجمني  و”الجبل لحمر” للمخرج ربيع التكالي والعمل الكوميدي “سبق الخير” للمخرج قيس شقير.

فما هي أسباب اهتمام الجمهور التونسي بهذه الأعمال؟ سنحاول هنا الإجابة عن دوافع المشاهد لمتابعة هذه الأعمال والحديث عنها ومناقشتها على مواقع التواصل، مثلما تؤكد محرّكات البحث على الإنترنت.

المسكوت عنه

“الفلوجة” عمل درامي عرضته قناة الحوار التونسي من تأليف وإخراج سوسن الجمني وتمثيل نعيمة الجاني والصادق حلواس وريم الرياحي ونضال السعدي وسارة التونسي ونسيم بورقيبة ومحمد مراد وشاكره رماح وفارس عبد الدائم ومحمد علي بن جمعة ورحمة بن عيسى.

تمكن مسلسل “الفلوجة” من تشخيص أبرز الإشكالات التي تدور حول سيرة عيّنة من التلامذة التونسيين داخل المؤسسة التربوية (المعهد الثانوي)، وخارجها، بما في ذلك المؤثرات التي تحوّط به من الأسرة إلى الشارع وكل ما يشكّل شخصيته.

داخل هذه الدّائرة الثلاثية الأبعاد (معهد، أسرة، مجتمع) تعاني هذه العيّنة والتي هي في سنّ المراهقة، الإدمان بمختلف مظاهره وتعرّض نفسها لـ: المخدرات والقنب الهندي والاغتصاب والسجن وغيرها من الإشكالات المسكوت عنها.

هذا الطرح الواقعي الصادم لوزارة التربية التونسية، جعل بعض الأطراف تتحرّك وتدعو لإيقاف المسلسل. لكنّ محاولات الإيقاف باءت بالفشل أمام وعي باطني غير معلن بأنّ ما يطرحه “الفلوجة” جزء من واقع المؤسسات التربوية في تونس. وما زاد تمسّك الجمهور بهذا العمل هو البناء الدرامي وحبكته وعنصر التشويق وإدارة الممثلين الناجحة بتشريك مجموعة من التلامذة.

وتميزت الحلقة الختامية بصورها الرمزية التي قدمتها المخرجة: أولاً رمزية ملابس التلاميذ الموحد بلون الزي العسكري، وكأنّ بسوسن الجمني تدعونا إلى التسليم بفكرة أنّ التربية مؤسسة سيادة مثل الأمن والجيش، والتلامذة هم حماة الوطن في المستقبل بالعلم والفكر والتفاف التلامذة حول مديرة المعهد وهم يرددون النشيد الوطني التونسي.
الصورة الرمزية الثانية تأتي عبر شخصية السلفي الذي تزوج التلميذة بالإكراه لأنّه اغتصبها وبمحاورتها يقرر الاندماج معها في عالمها ويرضخ لفكرة مشاركتها الرقص. وقد تم تداول مقطع رقصة السلفي بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي وكأنّها دعوة ضمنية إلى بعض السلفيين في تونس للاندماج في المجتمع من دون مضايقة الحريات.
فقر وإهمال
استعار المسلسل الذي عرضته القناة الوطنية الأولى، تسمية حي شعبي تونسي “الجبل لحمر” كعنوان له، والجبل لحمر من بين الأحياء المفقرة والمهمشة وتعاني صعوبات كبيرة قبل الثورة وبعدها.
 نسبة عمل درامي إلى هذا الحي هو في حد ذاته خطوة جريئة لمخرج العمل “ربيع التكالي” وعنصر تشويقي وتسويقي في آن. فقبل العرض، وبفضل الاسم، تحمّس الجمهور للمشاهدة بفضول معرفة إلى أيّ مدى سيكون هذا العمل وفياً لواقع أهل الأحياء الشعبية المهمشين والذين يتخبطون في الفقر وبعض الممارسات العنيفة والجرائم الناتجة من حالة الإقصاء.
ولكن مع كل هذه الجرأة في التوغّل إلى ما لا تقدر عليه “كاميرا” الإعلام العمومي، كان بديهياً أن تقوم مؤسسة التلفزيون الوطنية الحكومية (عارضة المشروع) بحذف مشاهد منه قيل إنها متعلقة باستهلاك المخدرات والعنف، بحسب تصريح إذاعي لأحد أبطال العمل الممثل محمد السياري.
ولم تكتف بذلك، بل أوقفت التلفزة الحكومية المسلسل قبل أربع حلقات من نهايته، بحجة أنّها تعاقدت مع الشركة المنتجة من أجل عشرين حلقة فقط، لتتفاجأ في ما بعد بإضافة حلقات أخرى.
هذه الخطوة أثارت غضب الكثيرين من متابعي العمل ممن أكدوا أن العمل الفني الذي يطلبه الجمهور ليس بالضرورة أن يكون متوافقا مع مخططات السلطة التي تريد دائماً مدّ المتلقي بما يخدم أجنداتها.
تحصين المناصب
“سبق الخير” عمل كوميدي للمخرج قيس شقير، وتأليف كل من زين العابدين المستوري وأحمد الصيد وباديس السافي وقيس شقير، وعرضته قناة “نسمة” التونسية في النصف الأول من شهر رمضان الكريم.
و”سبق الخير” هو مصطلح من العامية التونسية فيه دعوة إلى استباق الخير، وهو في تناقض مع السمة الأساسية للشخصية الرئيسة “الباهي سبق الخير” (الممثل كريم الغربي) الذي يعتبر فأل شر على كل المحيطين به، بعدما توفيت والدته وهي تضعه ولمّا صار شاباً والتقى برئيس الجمهورية تسبّب في هروبه (في تذكير بالثورة التونسية وهروب بن علي).
 تدار الحوادث داخل ثنائيات ومتناقضات تصنع فن الإضحاك والسخرية السوداء. بين انتظارات الحي الشعبي وأحلام رئيس الحكومة شقاق تام. فيدخل رئيس الحكومة (الممثل كمال التواتي) في هستيريا الرّفع من شعبيته حفاظاً على منصبه. فيحتك بالشعب في النقل العمومي إلى أن يسرق شاب (الممثل مجد بلغيث) هاتفه.
هذا الشاب السارق يتحوّل إلى مستشار لرئيس الحكومة، ومن ثمة يستولي على منصبه بعدما ساومه بتسجيلات مصورة لـ”شطحاته” على هاتفه. وشتان بين شطحات التيك توك وشطحات الفشل السياسي في إدارة الحكومة.
في المسلسل الذي لعب بطولته كل من كمال التواتي وكريم الغربي ومجد بلغيث، وكل من لطفي العبدلي ولطفي بندقة ورياض النهدي ورشا بن معاوية وأحلام الفقيه وفتحي العكاري ومنصف الوهايبي وغيرهم من أبرز الكوميديين التونسيين، ثمة كشف لمكامن الخلل السياسي منذ اندلاع الثورة التونسية حتى اليوم، وتعاقب الحكومات التي ظلت تتصارع على الحفاظ على المناصب وليس تحقيق الانتقال الديموقراطي. وهو من أسباب تعطّل المسار الديموقراطي في تونس.
إنّ الجامع بين الأعمال الدرامية التي حظيت بمتابعة جماهيرية كبيرة في تونس في الموسم الرمضاني الحالي، هو طرح قضايا تحتاج فعلا إلى التفكير وذات أولوية في حلّها: كأزمة التعليم في تونس بمختلف جوانبها، وأزمة التهميش والتفقير في بعض الأحياء الشعبية والأزمة السياسية المؤثرة على السياسات العامة للبلاد.
ولا شك بأن طرح تلك القضايا بالجرأة والمصداقية، سواء درامياً أو كوميدياً، جعل المتلقي يتشبث بهذه الأعمال وسحب البساط من أعمال أخرى مضت غير مرئية وكأنّها لم تبث. الجمهور يريد أن يتقاسم معاناته مع طرف آخر ويبدو أن الأعمال الفائزة باهتمامه هي الأعمال التي نجحت في في لعب هذا الدور.

 

Back to top button