لماذا تدهورت أحوال بورصة لندن بعد أن كانت رمزاً للسوق الحرة؟

النشرة الدولية –

اقتصاد الشرق

منذ أطلقت رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر العنان لموجة الخصخصة في ثمانينيات القرن الماضي، مثّلت بورصة لندن رمزاً لاقتصاد السوق الحرة في بريطانيا، واعتُبرت موطن الشركات التي تهيمن على المجالات العالمية، ومنها “أسترازنيكا”، و”شل”، و”إتش إس بي سي”، ومؤشر “فوتسي 100” الذي يعُد مرجعاً عالمياً لقياس الأداء.

مع ذلك، تدهور حجم التداول في السنوات السابقة، واختارت بعض الشركات البريطانية بورصات أخرى لإدراج أسهمها. يتماشى ذلك مع قصة دولة يواجه اقتصادها المشكلات، وتعاني من ضعف الاستثمار وانتكاسة في التجارة بسبب “بريكست”. رغم ذلك، فإن هناك عوامل مؤثرة أخرى أكثر تعقيداً.

ماذا حدث للبورصة البريطانية؟

تراجع النشاط من أعلى مستوياته قبل الأزمة المالية العالمية، حيث انخفض متوسط حجم التداول اليومي على مؤشر فوتسي الرئيسي إلى نحو 4,7 مليار جنيه إسترليني (5,8 مليار دولار) في مارس 2023 بعد أن بلغ 15 مليار إسترليني تقريباً في الشهر نفسه في 2007. حيث يميل المستثمرون إلى دفع مقابل أقل للأسهم غير السائلة، إذ يخاطرون بخسارة أكبر عند بيعها. وفي مطلع 2023، جرى التداول على مؤشر “إم إس سي آي” في المملكة المتحدة بخصم قياسي عند 40% مقارنة بنظيره الأميركي.

ما آثار ذلك؟

فيما استمرت لندن في المنافسة مع نيويورك باعتبارها مركزاً مالياً عالمياً، إلا أن البورصات المنافسة أجبرت بورصة لندن على التنحي جانباً. وتراجع رأس المال الإجمالي للأسهم المدرجة ببورصة لندن من أعلى مستوياته عند 4,3 تريليون دولار في 2007 إلى نحو 3 تريليونات في 2023، حسب البيانات التي جمعتها “بلومبرغ”. وعلى مدار الفترة ذاتها، زادت قيمة أسهم البورصة الأميركية عن الضعف لتبلغ 43 تريليوناً.

كما استولت باريس على مكانة لندن باعتبارها أكبر بورصة في أوروبا في 2022. وتحل بورصة لندن حالياً في المرتبة السابعة بين أكبر البورصات العالمية، بعد الأميركية والصينية واليابانية وبورصة هونغ كونغ والهند، ما يشكل اختباراً واقعياً قوياُ للمؤسسة التي يمتد تاريخها لأكثر من 200 عام. بدأ تراجع مكانتة البورصة قبل “بريكست” بفترة طويلة، حيث أدت جائحة كورونا وأزمة الإنتاجية المتفاقمة لدفع أداء اقتصاد المملكة المتحدة إلى التباطؤ، مقارنة بالدول المتقدمة الأخرى في مجموعة الدول السبع.

من المسؤول؟

في مطلع الألفينية، فرضت الحكومة البريطانية قوانين جديدة تجبر مديري صناديق التقاعد على زيادة الشفافية بشأن استثماراتهم وخططهم للوفاء بالتزامات التقاعد المستقبلية. ومن ضمن النتائج جاء التحول من الأسهم الأعلى مخاطرة، التي شكلت الاستثمار المفضل لقطاع التقاعد حتى تلك الفترة، إلى السندات الحكومية الأكثر أماناً.

كما أدى تقاعد ملايين العاملين المشتركين في برامج التقاعد محددة الاستحقاقات على مدى العقود التالية إلى تعزيز ذلك التوجه. صب مديرو صناديق التقاعد تركيزهم على السندات الحكومية على حساب الأسهم، لتتحسن قدرتهم على تلبية التزاماتهم طويلة الأجل تجاه هؤلاء المتقاعدين.

فضلاً عن ذلك، فالقدر الضئيل من رأس المال الذي احتفظت به الصناديق استُخدم بشكل متزايد في أسهم في بورصات أخرى، في إطار سعي من مديري الصناديق لتنويع حيازاتها. وفي عام 2000، شكلت حيازات الأسهم البريطانية نحو 50% من إجمالي المحفظة الاستثمارية لبرامج التقاعد محددة الاستحقاقات الكبيرة، حسب “رابطة الاستثمار” (the Investment Association). وبحلول 2021، انخفض التعرض للأسهم إلى نحو 2%، وكانت النتيجة أن بورصة لندن فقدت أكبر مصادرها لرأس المال.

هل ما زالت الشركات تجمع تمويلات عبر بورصة لندن؟

اختفت الإدراجات الجديدة تماماً من بورصة لندن في مطلع 2023، فيما جري تداول أسهم 3 شركات صغيرة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام، وجمعوا 14 مليون دولار، ما يجعله الفصل الأسوأ في البورصة منذ 2009 على الأقل. وكان ضعف الأداء واضحاً، حتى في إطار التراجع العالمي في الطروحات الأولية.

لم تتمكن “لندن ستوك إكستشانج غروب” من الفوز بإدراج واحدة من أهم شركات التكنولوجيا في بريطانيا، وهي شركة “أرم” (Arm) لتصميم الرقائق والتي يقع مقرها الرئيسي في كامبريدج، لندن. ورغم الضغط المحموم من وزراء الحكومة وعرض لتخفيف قواعد الإدراج في المملكة المتحدة، إلا أن شركة “سوفت بنك غروب” اليابانية مالكة “أرم” اختارت بورصة نيويورك للعودة إلى السوق العامة.

لماذا فقدت بورصة لندن جاذبيتها للطروحات الأولية؟

بعيداً عن التقييمات المنخفضة نسبياً عند الطرح، تضررت جاذبية بورصة لندن بسبب الأداء المؤسف لبعض الأسهم من بعض الإدراجات رفيعة المستوى، ومن ضمنها “ديلفرو”، و”دكتور مارتنز” (Dr. Martens)، و”إيثاكا إنيرجي”. وأدت التقييمات المنخفضة للشركات العامة والإغراق في تمويل الاستثمارات الخاصة إلى إثناء عزيمة الشركات المرشحة لإجراء طروحات أولية جديدة محتملة.

هل يمكن للشركات أن تتخلى عن إدراجها ببورصة لندن؟

يحدث هذا بالفعل:

– صرحت “سي آر إتش”، أكبر شركة لمواد البناء في أوروبا، في مارس بأنها تخطط لنقل محل إدراجها الرئيسي من بورصة لندن إلى نيويورك.

– في الشهر نفسه، كشفت جريدة “فاينانشيال تايمز” عن ضغط من أحد مساهمي شركة “بريتيش أميركان توباكو” لنقل محل إدراجها إلى بورصة نيويورك للوصول إلى مجموعة أكبر من المستثمرين.

– في 2022، نقلت شركة “بي إتش بي غروب” محل إدراجها الرئيسي إلى بورصة سيدني، لتنهي اتفاقاً ثنائياً مع بورصة لندن يعود تاريخه إلى تأسيس الشركة من خلال اندماج حدث قبل 20 عاماً.

– كما نقلت شركة “أبكام” المتخصصة في التكنولوجيا الحيوية، ومقرها في كامبريدج، والتي تبلغ قيمتها السوقية نحو 3,3 مليار دولار، محل إدراجها الرئيسي من بورصة لندن إلى “ناسداك”، في 2022 أيضاً.

– في 2021، انتقلت شركة “فيرغسون” لتوريد منتجات السباكة والتدفئة إلى البورصة الأميركية بعد التداول على أسهمها باعتبارها إحدى الشركات المدرجة على مؤشر “فوتسي 100” لعدة سنوات.

هل “بريكست” مسؤول عن ذلك؟

يصعُب تحديد علاقة مباشرة بينهما. الواضح أن الاتفاق أجبر البنوك على تعزيز حضورها في المراكز المالية المنافسة، مثل باريس أو أمستردام أو فرانكفورت. لم يعُد يُنظر إلى بورصة لندن على أنها محل الإدراج المفضل في أوروبا، إذ اختارت بعض الشركات أمستردام، بفضل البيئة التنظيمية الأكثر تشجيعاً.

في 2022، انخفض نصيب رأس المال البريطاني من عائدات الطروحات الأولية الأوروبية إلى 8%، وهو أدنى مستوياته منذ الأزمة المالية العالمية.

ما الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في هذا الصدد؟

أوصى مارك أوستن، أحد الشركاء في مكتب “فريشفيلدز بروكهاوس ديرينغر” (Freshfields Bruckhaus Deringer) للمحاماة، بعدد من الطرق لمساعدة الشركات على الوصول السريع إلى التمويل وبتكلفة أقل، وضمان قدرة كل المستثمرين على المشاركة في زيادات رأس المال. ونشر “أوستن” اقتراحاته في 2022، مستنداً إلى تقرير أصدره جوناثان هيل، المفوض الأوروبي للخدمات المالية السابق في 2020.

شملت توصيات “هيل” تخفيض الحد الأدنى من “الأسهم الحرة”، وهي حصة من رأس مال الشركة يمكن للجمهور تداولها، والسماح بدخول الشركات ذات هيكل الأسهم مزدوجة الفئة في شريحة الإدراج بعلاوة في بورصة لندن، كما اقترح “أوستن” تيسير قواعد نشرات الاكتتاب.

Back to top button