طيف اتفاق بكين يحوم فوق “غرب آسيا”
بقلم: طوني فرنسيس
توصيات بيروت وعقائديات بغداد أبرز تحركات إيران في عواصم نفوذها
النشرة الدولية –
” كل شيء هادئ على الجبهة الغربية لأن كل من فيها موتى”، هكذا شرح أحد النقاد الفيلم الشهير الذي أثار موجة عاصفة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. اليوم أيضاً تحين فرصة. فوسط انشغال العالم بالتوترات الناجمة عن حرب أوكرانيا ومنازعات الشرق الأقصى بدا أن كل شيء سيكون هادئاً على جبهة النزاع الإيراني- العربي بعد اتفاق بكين بين طهران والرياض وأن الهدوء سيصنعه الأحياء وليس الموتى.
أطلق الاتفاق في نصه على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها روحاً جديدة في المنطقة وصار ترقب الخطوات التالية جزءاً من يومياتها. لم تنقطع الاتصالات التي أعقبت محطة الـ 10 من مارس (آذار) 2023، محطة إعلان بكين بين مسؤولي البلدين وتم تبادل الدعوات لزيارات على أعلى المستويات، فيما يتوقع أن يعاد فتح سفارتي البلدين خلال أيام على ما أعلن وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبداللهيان خلال وجوده في بيروت ضمن جولته الأخيرة إلى مسقط وبيروت ودمشق.
انعكست مفاعيل الاتفاق مباشرة في تعزيز التهدئة في اليمن وفي استعادة العلاقات الرسمية بين إيران والبحرين وعودة تبادل السفراء بين أبو ظبي وطهران، وفي موازاة الانفتاح الخليجي على سوريا حرصت إيران على إبداء مرونة في إدارة نفوذها في جبهة “غرب آسيا”. اعترفت بأنها لن تكون وحيدة في العراق ولا سوريا ولا لبنان.
كل شيء سيكون هادئاً في هذه الجبهة ومنسجماً مع مقتضيات اتفاق بكين. الاعتراف بالدور العربي الخليجي هو مدخل إيران لتطوير سلوكها. فليست هي من يدير سياسة العراق ولا من يقرر مصير سوريا وليست من يحدد وجهة لبنان. لا يعني ذلك أن طهران ستتخلى عن النفوذ الذي راكمته في هذه البلدان طوال عقود عبر تصدير ثورتها المذهبية، لكنها ستسعى إلى توطين هذا النفوذ ضمن البنى السياسية المتاحة التي لا يمكن فصلها عن امتدادها وعمقها العربيين.
كان عبداللهيان واضحاً في شرحه الوقائع الجديدة لأنصار إيران في لبنان الذين ذهبوا بعيداً في السابق في مهاجمة دول الخليج العربي واستعدائها. قال إنه وضع الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله “في أجواء التطورات الإقليمية كافة سواء العلاقات الإيرانية مع السعودية والبحرين واليمن وملفات أخرى”.
كان نصرالله جعل من البلدان الثلاثة هدفاً لحملاته السياسية والإعلامية في السابق. الآن سيتغير كل ذلك وهو ما يظهر أقله في التناول السياسي والإعلامي.
استوجب تغيير المنحى المعادي للخليج الذي التزمه أنصار إيران طوال الأعوام الماضية كثافة حضور إيراني إلى “الجبهة الغربية”.
إلى بيروت ودمشق حضر مسؤول المفاوضات النووية باقري كني ووزير الخارجية السابق كمال خرازي، وفي وقت لاحق قائد الحرس الثوري إسماعيل قاآني. كانت كثافة الحضور هذه في العقل الإيراني بمثابة رد على الحضور الأميركي الكثيف إلى إسرائيل، من وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى وزير الدفاع لويد أوستن إلى مسؤول الأمن القومي جيك سوليفان ومدير الـ”سي آي أي” وليام بيرنز.
لم يكن الحضور الإيراني إلى لبنان مجانياً، بل إن زيارة عبداللهيان إلى الحدود مع إسرائيل اعتبرها كثيرون رداً على جولة وزير الخارجية الإسرائيلية إيلي كوهين على الحدود التركمانستانية- الإيرانية.
لا ينبغي الذهاب في المقارنة إلى هذا الحد، فالبنى التي أقامتها إيران في لبنان وجنوبه تتخطى ما يمكن أن تقيمه إسرائيل في تركمانستان، ولذلك بدا عبداللهيان مرتاحاً في خطابه على الحدود الجنوبية اللبنانية وتمسكه بصيغة الجيش والشعب والمقاومة التي هي رغبة إيرانية عميقة في مواصلة تقديم طهران نفسها على أنها قائد محور المقاومة ضد إسرائيل بمعزل عن موجبات اتفاق قضى صراحة بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
الإمعان في تدعيم هذا المحور سيعني إبقاء لبنان ساحة مفتوحة ولن يسهل استعادته لحياته الطبيعية في ظل سيطرة “حزب الله” على قرار الدولة والشعب والمقاومة.
يعرف عبداللهيان أنه يصعب الاستمرار في العمل بهذا الشعار في مناخ المنطقة الجديد وفي ظروف حاجة لبنان إلى انطلاقة جديدة للخروج من الأزمات التي يعيشها. ترجمة الاتفاق العربي- الإيراني في ظروف لبنان تعني الحاجة إلى لغة جديدة.
كان عبداللهيان يغادر بيروت مع “وصايا” قدمها إلى أنصار إيران في شأن الانتخابات الرئاسية اللبنانية، الأرجح أنها تنصح بالتسويات، فيما كان المرشد الأعلى علي خامنئي يستقبل الرئيس العراقي عبدالطيف رشيد، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يستعد لزيارة دمشق خلال أيام.
إن الحضور الإيراني هو ما يجري بحثه في مثلث بغداد ودمشق وبيروت. المرشد الإيراني قال للرئيس العراقي السبت الماضي، “لولا الأواصر العقائدية الراسخة بين البلدين ربما عادت العلاقات لظروف عهد صدام”. ستواصل إيران البناء على البعد العقائدي أي المذهبي الديني للمحافظة على حضورها في المشرق العربي.
في الأسبوع المقبل سيقول رئيسي شيئاً مماثلاً في دمشق وعبداللهيان تبنى لدى وصوله إلى بيروت اللازمة نفسها، قال إنه جاء ليدعم الجيش والشعب والمقاومة، الثلاثي الذي يختصره حزب الحرس الثوري بامتياز.
يعرف اللبنانيون والسوريون والعراقيون معنى الدعم الإيراني وأهدافه. هم يراقبون ذلك منذ زمن ويقاومونه. الآن بات النظام الإيراني يعرف أن ما مارسه في السابق لا ينفع اليوم. في بيروت لم تعد غزوة مايو (أيار) نافعة، كما أنه لا إمكانية لتمرير خيارات “حزب الله” الرئاسية السابقة لاتفاق بكين. طيف الاتفاق الصيني يحوم فوق المنطقة بأكملها، من الخليج إلى الجبهة الغربية الهادئة ويؤثر في تفاصيلها.