إيران والانتخابات البرلمانية المقبلة والسؤال حول مشروعية النظام
بقلم: حسن فحص
النشرة الدولية –
لم يحدث أن واجه النظام الإيراني ومنظومة السلطة منذ نشوئها أزمة في هندسة أي من الانتخابات التي أجريت على مدى أربعة عقود، والتعامل مع نتائجها والعمل على تفريغها من أبعادها وآثارها، ووعود التغيير والإصلاح التي حملتها في حال لم تكن على انسجام مع الدولة العميقة وتتعارض مع رؤيتها ومشروعها للسلطة والحكم.
حال الطمأنية لدى النظام وسلطته حول قدرته على التعامل مع نتائج العمليات الانتخابية، سواء الرئاسية أو البرلمانية أو مجلس خبراء القيادة أو حتى المجالس المحلية والبلديات، جعلته لا يتوقف كثيراً عند حجم المشاركة الشعبية سلباً وإيجاباً، وعمل على توظيف المشاركة الواسعة التي حصلت في الانتخابات البرلمانية عام 2001 (المجلس الإصلاحي السادس) والرئاسية مع محمد خاتمي ومن بعده حسن روحاني، باعتبارها استفتاء على شعبية النظام الإسلامي وما يتمتع به من قاعدة شعبية، واستخدامها في التصدي ومواجهة الضغوط الخارجية، الأميركية والأوروبية، التي يتعرض لها في كثير من الأزمات التي تشكل محل اختلاف مع المجتمع الدولي، والمتعلقة بحقوق الإنسان والحريات السياسية والاجتماعية، إضافة إلى طموحاته النووية والعسكرية والدور الإقليمي والنفوذ الذي يمارسه في منطقة الشرق الأوسط في عدد من العواصم والدول.
وعلى رغم القدرات التي يوظفها النظام في هندسة الانتخابات وإخراجها إلا أنه قد يواجه أزمة حقيقية في إعادة إنتاج مشروعيته الشعبية في هذه المرحلة وفي الانتخابات البرلمانية خلال دورتها الـ 12 التي حددها مطلع مارس (آذار) 2024، في الشهر الأخير من السنة الإيرانية الحالية، بخاصة وأن كل التقديرات السياسية والاجتماعية والحزبية تعتقد بتراجع كبير في المشاركة الشعبية قد تفوق التراجع الذي شهدته انتخابات الدورة الأخيرة التي أنتجت البرلمان الحالي الذي يترأسه محمد باقر قاليباف، والذي لم يضم أي صوت معارض للتيار المحافظ الذي يمثل السلطة والدولة العميقة التي لم تكن على استعداد لتحمل الصوت المحافظ المعتدل.
عوامل كثيرة وأسباب عدة ومعقدة تضع النظام أمام هذه الأزمة التي قد تسلبه ورقة المشروعية أو امتلاك قاعدة شعبية تؤيد وتدعم سياساته الداخلية والخارجية. أسباب تتداخل فيها عوامل مختلفة من خسارة الأحزاب والقوى السياسية الإصلاحية والمعتدلة والوسطية لقواعدها التمثيلية التي فقدت الأمل في قدرة هذه الأحزاب على تحقيق خرق في جدار السلطة والنظام الذي استطاع بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة، منعها من تقديم نموذج سياسي واجتماعي واعد بالتغيير والانتقال بإيران إلى مرحلة جديدة أو مختلفة، ولعل تجربة انتخاب حسن روحاني لرئاسة الجمهورية عام 2013 قد تكون آخر المحاولات في هذا السياق.
وقد تشكل الحال الاجتماعية وتراجع التفاؤل الشعبي بإمكان إحداث نقلة نوعية في الحياة السياسية، بخاصة داخل الهامش الذي من المفترض أن يمثل مساحة للتعبير عن مزاج وتوجهات ورأي القاعدة الشعبية، أي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، عاملاً أساساً في تراجع المشاركة خلال الانتخابات المقبلة، ويضاف إلى حال التشاؤم هذه تفاقم الأزمات الاقتصادية التي أصابت جميع الشرائح الاجتماعية ودفعتها نحو مزيد من اليأس بقدرة الطبقة السياسية التي ينتجها النظام ويضعها على رأس إدارة الدولة والمؤسسات الرسمية في اجتراح الحلول، بخاصة بعد انكشاف هذه السلطات ودخولها في لعبة التوازنات والمحاور دفاعاً عن مصالحها الحزبية والخاصة، بعيداً من الأزمات والمشكلات التي يعانيها المجتمع والمواطنون.
ولعل المعضلة الرئيسة التي تواجه النظام في كل انتخابات على مدى العقود الأربعة الماضية تعود للدور الذي تلعبه لجنة دراسة أهلية المرشحين المتفرعة عن مجلس صيانة الدستور، وهو المجلس الذي يعتبر الذراع القانونية التي يستخدمها المرشد الأعلى والدولة العميقة لإبعاد المنافسين أو المرشحين الذين يشكلون مصدر خطر محتمل على رؤية النظام والسلطة، وهذه اللجنة لعبت دوراً محورياً وأساساً في إبعاد مصادر الخطر وإنتاج الطبقة السياسية في رئاسة الجمهورية والبرلمان، وحتى مجلس خبراء القيادة التي ستجري انتخاباتها في دورتها السادسة (كل ثماني سنوات) بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية.
ويشكل هذا المجلس ولجنة درس الأهليات خط الدفاع الأول للنظام والمرشد والطبقة السياسية الممسكة بالسلطة وتقود الدولة العميقة، فهي التي لم تتردد في استبعاد هاشمي رفنسجاني أحد رموز الثورة والدولة والنظام من السباق الرئاسي والحياة السياسية، وحسمت الجدل حول تزوير الانتخابات الرئاسية عام 2009 لمصلحة محمود أحمدي نجاد على حساب مير حسين موسوي، من دون الأخذ بالاعتبار الحراك الاعتراضي الذي شهدته إيران وتسبب في شلل الحياة لنحو ثمانية أشهر.
وانطلاقاً من موقفها القائل إن تحمل هذه الموجة من الاعتراضات (الثورة الخضراء) سيكون أقل ثمناً من الرضوخ للموقف الشعبي والقوى السياسية المعترضة، لأن مجرد التراجع في هذه المسألة سيؤسس لمسار طويل من التراجعات في المستقبل.
واستمرار النظام في اعتماد الآليات نفسها عبر مجلس صيانة الدستور في التعامل مع مرشحي الانتخابات البرلمانية وإعادة إنتاج برلمان مشابه للبرلمان الحالي، يعني أن النظام لا يراهن على المشاركة الشعبية أو أنه لا يريدها، لأن العزوف الشعبي عن هذه المشاركة والاكتفاء بمشاركة القاعدة المؤيدة له تشكل ضمانة في الابتعاد من دائرة أو خطر وصول برلمان غير مطيع أو غير موال له.
ويمكن القول إن الانتفاضة الشعبية التي شهدتها إيران بعد مقتل الفتاة مهسا أميني على يد جهاز الشرطة الأخلاقية، وسياسة القمع التي مارسها النظام في التعامل مع هذا الحراك، أسهمتا في إيجاد شرخ ثقافي داخل المجتمع الإيراني بين رؤية رسمية للنظام لا تحظى بتأييد وقبول من جماعات محسوبة على النظام نفسه، وبين موقف شعبي لم يعد يخشى في إعلان موقفه الرافض والمعارض لرؤية النظام السياسية والدينية والاجتماعية، وبالتالي لم يعد النظام مع أجهزته الرسمية وذات الطابع الانتخابي يشكل محل اهتمام لهذه الشرائح، على قاعدة أن النظام سينتج السلطة التي يريدها بغض النظر عن المشاركة الشعبية من عدمها.
كل هذه العوامل، وفي ظل ما يعتبره النظام خطوات انفتاحية في السياسة والعلاقات الخارجية، واستعداده لتقديم تنازلات من أجل عقد تسويات دولية وإقليمية، ستضعه أمام استحقاق داخلي أكثر تعقيداً، وهل سيكون قادراً أو على استعداد لتقديم تنازلات داخلية حقيقية تساعد في إعادة بناء الثقة بينه وبين القواعد الشعبية وإحياء الأمل في إمكان التغيير والانتقال إلى حياة أفضل في ظل حريات اجتماعية وسياسية، وفتح المجال أمام المشاركة لجميع الأطياف واحترام التعددية السياسية والحزبية.
وإذا ما وجدت هذه النية أو هذا التوجه لدى النظام، فهل سيكون على استعداد للدخول في مواجهة مع التيار المتشدد الذي طالما اعتبر نفسه الحامل والحامي والمدافع عن النظام ورؤيته الإسلامية للنظام والسلطة، دفاعاً عن استمراريته واستعادة شعبيته