عبثية الحرب الـ15 على غزة
بقلم: طوني فرنسيس
"الجهاد" تدفع ثمناً غالياً عن محور "وحدة الساحات" و"حماس" تختار الحفاظ على سلطتها
النشرة الدولية –
ستتكرر حرب غزة حتى لو توقفت نتيجة الوساطات المعتادة، فكل العوامل التي تؤدي إلى انفجاراتها الدورية لا تزال قائمة، وهي تتراكم باضطراد، فلا إسرائيل تذهب إلى معالجة لب المشكلة، وهو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وضرورة إنهائه لمصلحة قيام الدولة الفلسطينية وإرساء حالة السلام الشامل والدائم، ولا الوضع الانقسامي الفلسطيني يسمح بمواجهة وطنية موحدة للاحتلال تفرض ميزاناً جديداً للقوى يتيح تفاوضاً حقيقياً يؤدي إلى استعادة الحقوق الفلسطينية وإزالة الاحتلال.
بدأت إسرائيل تصعيد حملتها ضد تنظيم “الجهاد الاسلامي” منذ مارس (آذار) الماضي بعد أن لاحظت تكثيفه لعملياته ضد وجودها في الضفة الغربية، ومنذ البداية ركزت على نهج الاغتيالات المترافقة مع مداهمات واعتقالات.
في حملتها “الحزام الأسود”، خلال شهر أغسطس (آب) الماضي اغتالت إسرائيل قائد “الجهاد” في شمال قطاع غزة بهاء أبو العطا، وفي عمليتها الأخيرة ” الدرع والسهم” نفذت في هجمات متزامنة اغتيال ثلاثة من قادة المنظمة بينهم المسؤول العسكري في غزة، والمسؤول العسكري في الضفة، وفي ضربات لاحقة قتلت قائد سلاح الصواريخ في “الجهاد” ثم نائبه على التوالي، وأخيراً قائد العمليات المركزية في التنظيم.
في وصفه لهذه العمليات المميتة، كتب يوآف ليمون في “إسرائيل اليوم” أن حملة كهذه “تتطلب تنسيقاً بين استخبارات نوعية بشرية وتكنولوجيا وقدرة عملياتية موضعية، وإسرائيل هي بطل العالم في هذين العنصرين، ففي التصفية في غزة كان مطلوباً، ليس فقط معلومات دقيقة أين ينام كل واحد من أولئك المسؤولين على مستوى الغرفة المحددة في البيت، بل أيضاً عن موعد إطلاق الطائرات والهجمات بحيث يصاب ثلاثتهم في وقت واحد”.
مثلها مثل الهجمات السابقة، بدت الحملة الجديدة محكومة بحسابات أمنية بحتة، سقفها السياسي لا يتعدى منع تحويل نظرية “وحدة الساحات” إلى واقع، والطريق إليه تجنب انخراط حركة “حماس” في المواجهة كمهمة أولى، ثم متابعة العمل على تكريس الاحتلال في الضفة واستتباع قطاع غزة من دون أي طرح يستهدف معالجة أسباب الصراع في جذوره.
عندما بدأت القوات الإسرائيلية عمليتها، فجر الثلاثاء الماضي، كان السؤال المركزي بالنسبة إلى القيادة في تل أبيب يتعلق باحتمال تدخل حركة “حماس” في القتال، وكان لدى إسرائيل تجربة سابقة معها في أغسطس الماضي، عندما شنت حملة على “الجهاد” وامتنعت الحركة عن إطلاق النار، وتحسب إسرائيل أن لا مصلحة للأخيرة في المشاركة بحرب منذ “أن سمحت بدخول نحو 17 ألف عامل من القطاع للعمل داخل أراضيها، فرواتب العمال إلى جانب المساعدات الشهرية القطرية، أدت إلى تحسين الوضع الاقتصادي في القطاع، ما يساعد “حماس” على الاستمرار في الإمساك بغزة”، لكن رهان الحكومة الإسرائيلية على تحييدها يصعب أن يصمد إزاء استمرار الهجمات وتبادل القصف، ويقول عاموس هرئيل في “هاآرتس” إنه في أبريل ( نيسان) الماضي، بعد اقتحام الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى “تم إطلاق قذائف من جنوب لبنان وسوريا وغزة، واتهمت إسرائيل نشطاء حماس في لبنان، وتتحدث الاستخبارات منذ فترة عن وحدة الساحات وتصعيد متزامن بتشجيع إيراني، ويمكن أن تسرع الاغتيالات مثل هذا السيناريو، وهو ما يصح في الضفة، حيث يتصاعد الاشتعال منذ مارس الماضي”.
يأخذ الإسرائيليون هذه الوقائع في حساباتهم، وهم يبنون سياساتهم استناداً إلى رؤية خاصة بهم قوامها حتمية الحرب في سياقها الفلسطيني وعلى المستوى الأشمل.
في مطلع الشهر الجاري، ناقشت القيادة العسكرية الإسرائيلية الخطة الخمسية الجديدة للجيش التي تركز على “تعزيز آليات القيادة والسيطرة استعداداً لخوض حرب واسعة على جبهات عدة، وتعزيز الاستعدادات لمواجهة مع إيران”، ليس في عناوين هذه الخطة ما يفاجىء، فمنذ سنوات تهدد إيران بإزالة إسرائيل من الوجود، لكن الرد عليها بالتهديد وبعمليات هجومية تستهدف برنامجها النووي ومواقعها العسكرية في سوريا، منذ سنوات تعتبر تل أبيب أن إيران تحاول تشكيل حزام من المنظمات المعادية لها في فلسطين ولبنان وسوريا، ولا تنكر الأمر بل تفخر به وتعتبر هذا الحزام جزءاً من “محور المقاومة” الذي تقوده انتصاراً لمبادىء الثورة الإيرانية الإسلامية.
تتمتع إسرائيل في رؤيتها للمخاطر الإقليمية وحصرها بالتهديد الإيراني، بدعم أميركي بدا مشروطاً عندما يتعلق الأمر بالتحضير لمهاجمة إيران، لكنه أقل تشدداً، بل داعم عندما تواجه إسرائيل تهديداً أمنياً “داخلياً”، كما في الهجمات التي تتعرض لها قواتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي الحالتين لا يسهم الموقف الأميركي ولا الغياب الملحوظ للاهتمام الدولي، في تسوية جدية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولا في حسم المسألة الإيرانية لمصلحة إقليم يتمتع بالهدوء وخال من السلاح النووي.
تخوض إسرائيل اشتباكات يومية مباشرة مع الفلسطينيين في الضفة الغربية حيث تواصل محاصرة وإضعاف السلطة الفلسطينية على وقع توسيع عمليات الاستيطان، وفي هذه المنطقة التي يفترض أن تكون جزءاً من الدولة الفلسطينية المستقلة فاق عدد المستوطنين نصف مليون إسرائيلي يقيمون على أراض مصادرة.
كانت الأسباب المباشرة للاشتباك بين القوات الإسرائيلية و”الجهاد الإسلامي” هي تصعيد المنظمة التي تتهمها إسرائيل بالتبعية لإيران لعملياتها العسكرية في الضفة الغربية، وترافق هذا التصعيد في الآونة الأخيرة مع توترات الضفة من جهة ومع تزايد الضربات الإسرائيلية للأصول الإيرانية في سوريا، ولم تخف إيران على لسان قادتها رهانها على الثأر لضحاياها في الضفة بالذات، ووصل الأمر بقائد الحرس الثوري حسين سلامي حد تبني العمليات ضد قوات الاحتلال وتسليح منفذيها، مشيداً بما أسماه “الأيادي الخفية” التي تمول وتسلح هذه الهجمات.
لا تنفصل الحملة الأخيرة على “الجهاد الإسلامي” في غزة عن رؤية إسرائيل في خطة جيشها الخمسية، فهي في الحملة الأخيرة توجه ضربة لما تعتبره أحد أذرع إيران في فلسطين وتوجه رسالة دموية إلى الذين يسعون لتطوير نظرية “وحدة الساحات”، فحملة الاغتيال بالصواريخ تستهدف إرهاب كل العناصر في المنطقة التي تتبنى صيغة محور المقاومة بقيادته الإيرانية ولا تستثني أحداً في فلسطين ومحيطها.
العملية الأخيرة التي توقفت ليل السبت الماضي، كانت الثالثة من نوعها التي تستهدف تنظيم “الجهاد” تحديداً في غزة “الحمساوية” منذ إخلائها القطاع في 2005، ونفذت إسرائيل ما يقارب 15 هجوماً عسكرياً ضده في سلسلة عمليات بدأت بـ”المطر الأول” وانتهت بـ “درع وسهم”.
ويتندر كتآب إسرائيليون بأن قيادتهم استنفدت “مخزونها الإستراتيجي” من أسماء العمليات المخصصة لغزة من دون أن يتغير شيء أساس لأنه ليس لدى إسرائيل أي “حل حقيقي”.
ستكتفي الدولة العبرية بما حققته في موجة الاغتيالات الجوية وحصيلتها ستة من القادة أعضاء المجلس العسكري لـ”سرايا القدس” الجناح العسكري لـ”الجهاد”، وستسعى إلى الاستفادة من تحييد حركة “حماس” التي لم تدخل المعركة رسمياً، فبدا أنها تخلت عن “الأخ الصغير” في وسط المعمعة، كان السؤال المركزي لدى الحكومة الإسرائيلية عشية بدء حملتها قبل أسبوع يدور حول انغماس حركة “حماس” في المعركة، بقيت الحركة رسمياً خارج القتال على رغم بيانات غرفة الفصائل المشتركة، ونعت في بيان إياد الحسني قائد العمليات المركزية لسرايا “الجهاد” بوصفه مسؤولاً عن التنسيق مع “كتائب القسام” الذراع العسكرية للحركة خلال المواجهة.
اعتبرت إسرائيل أن “حماس” ستكون على المستوى الاستراتيجي معنية بـ”جولة قصيرة” من القتال، وهو ما حدث، “فالواقع الحالي بينها وبين القطاع مريح بالنسبة إليها، منذ سمحت بدخول نحو 17 ألف عامل من غزة للعمل داخل أراضيها”، وكما يقول عاموس هرئيل في “هاآرتس” فإن “رواتب العمال، إلى جانب المساعدات الشهرية القطرية (نحو 50 مليون دولار)، أدت إلى تحسين الوضع الاقتصادي في القطاع إلى حد ما، ما يساعد حماس على الاستمرار في السلطة داخل غزة التي تحكمها منذ 2007”.
بقيت “حماس” بعيدة نسبياً لكن استمرار القتال وتوسعه في المستقبل يمكن أن يجعلها تنخرط في المعركة، وهذا ما سيسعى إليه “الجهاد” وهو ما تحاول إسرائيل تجنبه عبر التوصل إلى اتفاقات وقف للنار، ترعاها مصر غالباً، إلا أنها اتفاقات لا تمنع تجدد الحروب الدورية ولا تقدم للأخ “الأصغر” ولا للأخ “الأكبر” في القطاع المحاصر آفاقاً مفتوحة على حل ينقذ الشعب في غزة وفلسطين من دوامة الاحتلال.