الموت حائر أمام أغاني عبدالكريم عبدالقادر
الارتقاء الأدائي عند عبدالكريم لم يتراجع مع كل التنوع اللحني الذي رافق تجربة هذا الفنان على مدار أكثر من نصف قرن
النشرة الدولية –
العرب – كرم نعمة –
قبل عقود كان يوسف البصري يقف منتشيًا بجوار سيارته التي كانت من طراز ستيني نادر، وربما كانت الوحيدة من نوعها في البصرة. وكل من يعرف يوسف يدرك أن ذلك الانتشاء لا يعود للسيارة، بل لجهاز المسجل الخاص بها، وهو من نوع منقرض يشتغل بأشرطة كاسيت غير متوفرة مما كان متداولاً. لكن أي فائدة لمسجل لا تجد ما يشغّله؟ كان البصري يتباهى بامتلاك كاسيت واحد لمسجله النادر لعبدالكريم عبدالقادر، لا يمل من سماعه كلما تجول بسيارته العتيقة في المدينة التي كانت في يوم ما فينيسيا الشرق.
الوله العراقي بأغاني عبدالكريم عبدالقادر الذي لوح لنا بالوداع الجمعة لا تختصره قصة البصري، فقد كانت أغاني هذا الفنان الذي غادر العراق في ستينات القرن الماضي، أنشودة فراق مؤثرة يتداولها الجنود على سواترهم، فيما كانت إذاعة بغداد باذخة الكرم في بثها لأغاني تذوب ولهاً لصوت عاشق جريح.
هكذا كبر ابن قضاء الزبير في مدينة الكويت فيما بقي العراق بعيداً وعزيزاً عليه، إذ لم يزره كل تلك العقود، “لا أحد يؤكد إن كانت ثمة زيارات شخصية لأهله في البصرة”، لكن عبدالكريم عبدالقادر كما اعترف للفنان فؤاد سالم الذي عاش سنوات في الكويت، كان يستبد به حنين غامض عندما يستمع إلى أغنياته من إذاعة بغداد، ويشعر بطعم مختلف لتلك الأغاني. وباستثناء أغنية وطنية مشتركة “هلا بغداد” مع عبدالله الرويشد، لماذا لم يكن غناء عبدالكريم عبدالقادر عراقياً؟
ذلك أمر يعزى إلى طبيعة حياته الشخصية التي عاش فيها ضمن فئة البدون، ولم يحصل على الجنسية الكويتية إلا في مراحل متأخرة من عمره. ومع كل ما كان يجمعه مع ملحنين عراقيين لم يكن يبادر للحصول على لحن، إذ بقي بخصوصيته الغنائية التي كانت تمتلك فرادتها، ويمكن أن تكون المعادل الموسيقي لأغنية البيئات العراقية التي شاعت منذ ستينات القرن الماضي.
لم يتراجع الارتقاء الأدائي عند عبدالكريم مع كل التنوع اللحني الذي رافق تجربة هذا الفنان على مدار أكثر من نصف قرن، ويمكن انتقاء أي أغنية له بشكل عشوائي من بين أكثر من 250 أغنية مسجلة، لنجد تأثير العُرب الصوتية المتفردة في صوته وهي تبوح بروح المفردة لا آليتها. وذلك، لعمري، الدرس المثالي في الغناء.
ولأن صوته مؤثر في تعبيريته بقي يسافر بالأرواح الهائمة، ولم تغب أغانيه عن القلب والذاكرة، حيث شكّل مع الفنان يوسف المهنا علامة غنائية بقيت تطوف بين العاشقين على ضفاف الخليج العربي وتعبُر من العراق حتى بلاد الشام. من يعود إلى لحن المهنا لقصيدة عبداللطيف البناي “وداعية” يدرك لماذا كان هذا الصوت جريحاً.
كما شكّل مع الموسيقار السعودي عبدالرب إدريس علامة فارقة. تكفي الإشارة إلى أغنية “هذا أنا” التي كتبها بدر بورسلي، اللحن الذي حملَ تاريخاً من الموسيقى الأوبرالية الساحرة عندما صنعَ إدريس أحد أهم الدروس اللحنية في الغناء المعاصر. وكان عبدالكريم يُعبّر في هذا اللحن عن حقيقة صوته الذي لا يكتفي بالانطلاق من حنجرة لفرط صفائها بدت وكأن الفنان يغني بمسامات جسده برمته!
لا يمكن قراءة تجربة عبدالكريم من دون المرور بألحان راشد الخضر، “للصبر آخر” التي كتبها عبداللطيف البناي و”يكفي خلاص” ليوسف الناصر، وتوجها في واحدة من أعمق الأغاني العربية المعاصرة “بعيون البشر” التي كتبها عبداللطيف البناي.
ولا تغيب هنا مهما طال الزمان ألحان سليمان الملا، أحد كبار صنّاع التعبيرية في صوت عبدالكريم في أغنيتي “لا خطاوينا” و”ما امنعك”.
رحل عبدالكريم عبدالقادر، فيا للموت الذي أخذ الصوت الجريح، وبقي حائراً أمام أغانيه! وداعاً أبا خالد.