هل أسواق النفط بحاجة لـ”أوبك” و”أوبك+”؟ (1 من 2)
بقلم: أنس بن فيصل الحجي

تشير الدلائل التاريخية إلى أن تكلفة زيادة الذبذبة في الأسعار مكلفة للغاية لكل من المنتجين والمستهلكين

النشرة الدولية –

هل تحتاج أسواق النفط العالمية إلى إدارة؟ هل تحتاج إلى منتج متأرجح، سواء كان “أوبك+”، أو “أوبك”، أو دول الخليج، أو المملكة العربية السعودية، أو أي مجموعة من الدول المنتجة للنفط التي تغير الإنتاج بهدف إدارة سوق النفط؟

ماذا عن الحكومات المحلية التي تضع سقوفاً للإنتاج أو تقنن الإنتاج في أسواق النفط المحلية؟ وماذا عن الحكومات المستهلكة للنفط التي تستخدم احتياطياتها النفطية الاستراتيجية؟ هل هذه أيضاً إدارة لأسواق النفط؟

 

الصناعات الاستخراجية لها اقتصاداتها ووضعها الخاص

 

لا يمكن تطبيق المبادئ الاقتصادية التي تستخدم في الصناعات على الصناعة الاستخراجية للمواد الأولية، حتى في علم الاقتصاد هناك تخصص منفصل للموارد الطبيعية. صناعة النفط، مثلها مثل أي صناعة استخراجية أخرى، كثيفة رأس المال ومعظم تكلفتها باهظة، بينما تكلفة التشغيل صغيرة نسبياً. خلال فترة الركود والانخفاض الحاد في أسعار النفط، يركز منتجو النفط على تكلفة التشغيل، التي تعد صغيرة نسبياً كما ذكرنا سابقاً، لهذا يمكنهم الاستمرار في الإنتاج على رغم الخسائر الكبيرة، والنتيجة هي منافسة شديدة وهدر لموارد العالم النادرة، وانخفاض في الكفاءة وارتفاع التكاليف، وهناك مئات الأدلة من حول العالم في الـ 140 سنة الماضية.

الاستمرار في الإنتاج مع انهيار الأسعار يعني توقف الاستثمار، ومع تعاظم معدلات النصوب، تتحول الوفرة إلى عجز في الإمدادات فترتفع الأسعار بشكل كبير، فيزيد الاستثمار، وتتكرر الدورة نفسها، وتزداد الذبذبة بشكل كبير، مخلفة وراءها دماراً اقتصادياً وخسائر ضخمة، واستنزافاً لا يمكن تعويضه للموارد الطبيعية.

هذا التقلب الشديد يضر بالمنتجين والمستهلكين، فهو يخفض من معدلات النمو الاقتصادي العالمي، الذي هو مصدر نمو الطلب على النفط، ونمو الوظائف، وانخفاض البطالة في البلدان المستهلكة للنفط.

هذه الذبذبة الشديدة في أسعار النفط تمنع الشركات في المجالات كافة من التخطيط لتوسعها بشكل جيد، وتمنعها من التوزيع الأمثل للميزانيات والموارد، فيرفع التكاليف من جهة، ويخفض من نموها من جهة أخرى، كما أنه يخفض من أرباحها، باختصار، تؤدي الذبذبة الشديدة في أسعار النفط إلى إهدار الموارد وارتفاع التكاليف وتدهور الكفاءة في إنتاج النفط واستهلاكه.

وتشير الدلائل التاريخية منذ 160 سنة وحتى الآن إلى أن تكلفة زيادة الذبذبة في أسعار النفط مكلفة للغاية لكل من المنتجين والمستهلكين، لهذا نجد أن كلا المجموعتين ترغبان في تحقيق استقرار نسبي في أسعار النفط. هذا يعني أن أي حوار وتعاون بين المنتجين والمستهلكين يجب أن يركز على المنفعة المشتركة للفريقين، تخفيض الذبذبة وتحقيق استقرار نسبي في أسواق النفط، والتحكم بالأدوات التي تمكنهم من ذلك.

 

ونظرة تاريخية لأسعار النفط منذ عام 1960 وحتى الآن، توضح وجود فترات شديدة التذبذب وفترة استقرار نسبي، وتحقق الاستقرار النسبي عندما كان يوجد مَن يدير أسواق النفط، وانتهى هذا الاستقرار وعانت الأسواق من ذبذبات حادة عندما لم يكن هناك من يدير هذه الأسواق.

 

أهداف إدارة السوق

 

عانت أسواق النفط في بدايتها من كثرة عدد المنتجين واختلاف نوعية المنتج، وتأرجحت الأسعار تأرجحاً كبيراً، وكانت هناك خسائر عالية وهدر كبير، أول من أدار أسواق النفط هو جون روكفلر الذي أسس شركة “ستاندارد أويل” التي سيطرت في النهاية على نحو 90 في المئة من السوق الأميركية وبدأ يتوسع عالمياً، هدف روكفلر من الاستحواذ على بقية الشركات والسيطرة على السوق إلى تحقيق ما يلي:

 

1- تخفيض الذبذبة في الأسعار واستقرارها نسبياً.

 

2- تحسين الكفاءة في الإنتاج.

 

3- إلغاء الهدر أو على الأقل تخفيضه بنسبة كبيرة.

 

4- تخفيض التكاليف.

 

5- تحقيق أرباح عالية، ما يضمن أموراً عدة منها استمرار الاستثمار في الصناعة.

 

من خلال السيطرة على السوق النفطية وإدارتها استطاع روكفلر أن يحقق كل هذه الأهداف وأصبح “قارون” عصره، إلا أن وجود إمبراطورية ضخمة ومسيطرة أزعج الساسة الأميركيين، فقاموا بتبني قوانين منع الاحتكار وتطبيقها على شركته، واستمر الصراع في المحاكم سنوات طويلة حتى قررت المحكمة العليا تفكيك إمبراطوريته في عام 1911 إلى 35 شركة منها “إكسون موبيل” و”شيفرون”.

بعد تفكيك الشركة الأم وقيام الشركات بمنافسة بعضها، وإنشاء شركات أخرى من قبل أطراف متعددة، انهارت الأسعار، وبدأ التذبذب من جديد، فزاد الهدر، وانخفضت الكفاءة، وارتفعت التكاليف، وبدأت الشركات تحقق خسائر كبيرة، ما يعني في النهاية انخفاض الضرائب التي تجمعها حكومات الولايات المنتجة للنفط، والحكومة الفيدرالية، فتم الاتفاق بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات المنتجة على تنظيم أسواق النفط بإخضاعها لهيئات متخصصة، وإدارتها من قبل هذه الهيئات، على رغم أن حقول النفط خاصة، والشركات خاصة، وعندما فشلت هذه الهيئات في إقناع المنتجين بتخفيض الإنتاج، قامت بإرسال جنود الحرس الوطني المدجج بالسلاح واحتلوا حقول النفط، وسيطروا على الإنتاج، بعدها وظفت الحكومات مراقبين على كل الآبار للتأكد من أنها تنتج كما هو مقرر لها من قبل هذه الهيئات.

لماذا قامت الحكومات بذلك؟ للأسباب نفسها التي حدت بروكفلر للسيطرة على السوق، إذاً هناك قناعة لدى القطاع الخاص والعام بضرورة إدارة أسواق النفط، ولكن هناك أدلة أكثر وأكبر على ذلك.

قوانين محاربة الاحتكار تنطبق فقط على الشركات العاملة داخل الولايات المتحدة. عالمياً لم يكن هناك ما يمنع تواطؤ شركات النفط العالمية، فكونت تحالفاً اشتهر في ما بعد باسم “الأخوات السبع”، إذ سيطر أفقياً ورأسياً على أغلب الصناعة النفطية في العالم، لماذا؟ لتحقيق الأهداف نفسها التي هدف إليها روكفلر وحكومات الولايات الأميركية.

مع انتشار حركات التحرر العالمية، بدأت بعض الدول النفطية بتأميم ممتلكات الشركات العالمية، مثلما حصل في المكسيك في عام 1938، وإيران في عام 1951 ثم العراق وليبيا ومصر في الستينيات والسبيعينيات، ثم فنزويلا والبيرو وإندونيسيا، في وقت طلبت فيه دول الخليج من الشركات النفطية العالمية مشاركة أكبر من طريق شراء حصص تدريجاً حتى تمت ملكيتها بالكامل، فهي حققت السيطرة على احتياطات النفط من خلال المشاركة وشراء الحصص بدلاً من التأميم.

في الوقت نفسه زاد الطلب الأميركي على النفط بشكل كبير، وسمحت سكة حديدة تكساس وغيرها لشركات النفط بزيادات تدريجية للإنتاج حتى وصل إلى ذروته القصوى، هنا انتهى دور هذه الهيئات تماماً، وتوقف تحكمها بالإنتاج.

بدأ وقتها يظهر عجز في إمدادات مصادر الطاقة كلها بما في ذلك النفط والغاز والكهرباء، وبدأت الأسعار في الارتفاع، عندها قررت إدارة نيكسون التحكم في الأسواق من طريق تحديد أسعار كل مصادر الطاقة.  إذاً انتقلت إدارة السوق من الولايات داخل الولايات المتحدة، ومن الشركات العالمية خارجها إلى حكومة الولايات المتحدة.

إذاً في وقت واحد تقريباً انتهى دور التحكم في الأسواق الأميركية والعالمية، وكان ذلك في بداية السبعينيات، وعلى رغم أن أ”وبك” تأسست في عام 1960، إلا أنها لم يكن لها دور كبير بسبب سيطرة الشركات الأجنبية على منابع النفط من خلال الامتيازات التي حصلت عليها في عقود سابقة.

ولكن حصل تطور خطير نتجت منه تغيرات تاريخية كبيرة، إذ قرر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون تعويم الدولار وفصله عن الذهب، والنفط من وقتها يباع بالدولار، فانهار الدولار أمام الذهب، وهذا يعني انخفاض إيرادات الدول النفطية بشكل كبير، حاولت دول “أوبك” وقتها البحث عن بديل للدولار، ودرست الموضوع من جهات عدة، وتبين في ما بعد أن الدولار ما زال هو أفضل خيار، على رغم الخسائر الكبيرة، كان رد فعل دول “أوبك” هو إقرار زيادة للسعر المعلن الذي يتم بناءً عليه تحديد الإيرادات التي تدفعها الشركات للدول المنتجة بمقدار 70 في المئة، ثم تلا ذلك قيام مجموعة من الدول العربية بفرض حظر نفطي على الولايات المتحدة وتخفيض الإنتاج بسبب دعمها لإسرائيل في حرب رمضان، وما فاقم أثر رفع السعر المعلن والمقاطعة هو تحديد الأسعار من قبل الحكومة الأميركية.

دور أوبك

مع فوز الرئيس ريغان في الانتخابات وتحرير أسواق الطاقة في الولايات المتحدة، رمت أميركا عبء إدارة الأسواق في عام 1980 على “أوبك”، التي لم تكن مستعدة إطلاقاً، فكانت هناك الثورة الإيرانية، ثم الحرب العراقية- الإيرانية، في ظل عدم وجود نظام حصص إنتاجية على الإطلاق، وعدم وجود أي خبرة في إدارة الأسواق، فكانت النتيجة تحمل السعودية عبء التخفيضات، حيث استمرت بالتخفيض حتى بلغ الانخفاض ثمانية ملايين برميل يومياً، أكرر، هذا التخفيض، وليس الإنتاج، الإنتاج انخفض إلى مليوني برميل يومياً، ولم تتعاون أغلب دول “أوبك” مع السعودية وقتها، وانهارت الأسواق في منتصف الثمانينيات، ولم تستطع دول “أوبك” وقف النزيف الذي أنهك موازنات الدول النفطية، وأنهى إحدى أكبر الطفرات المالية في تاريخ المنطقة.

والواقع أن أموراً خارجية عدة أفشلت جهود “أوبك” وقتها في إدارة السوق، أهمها أن الارتفاع الكبير في أسواق النفط في السبعينيات أسهم في جلب نحو خمسة ملايين برميل يومياً من أماكن لم يكن يتوقع أن تصبح مناطق نفطية منتجة وهي ألاسكا وبحر الشمال.

وللحديث بقية.

Back to top button