“وثيقة النوايا” وتوافق فرقاء السودان
بقلم: سالم الكتبي
النشرة الدولية –
إيلاف –
شكوك كثيرة وعميقة تحيط بقدرة طرفي الصراع في السودان على بناء إتفاق حقيقي ينهي الأزمة الحالية، حيث تشير الشواهد القائمة إلى أن الشقاق بين الخصمين، البرهان وحميدتي، عميق لدرجة يصعب معها تصور تعاونهما من أجل مستقبل البلاد، وما يعتبره الكثيرون دليل توافق، وهو المحادثات الخاصة بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار، هو بنظري دليل شقاق هائل، لأن الخصمين يندفعان في إتجاه صراع مفتوح مهما كلفهما الأمر من خسائر وضحايا بحكم اعتقاد كل منهما بأنه قادر على إزاحة خصمه عسكرياً وحسم المعركة لمصلحته، ولأن هناك شواهد على أن جانباً لا يمكن تجاهله من هذا الصراع يتعلق بتصفية حسابات قديمة ومواقف ثأرية سواء من جانب عناصر النظام السابق أو بين بقية أطراف الأزمة.
الكارثة الأكبر فيما يحدث بالسودان هو الخلط بين “المدني” و”العسكري” فالجيش السوداني لديه قناعة كاملة بأن قوات “الدعم السريع” تختبىء داخل الأحياء السكنية، لذا يقوم بقصف للمناطق السكنية بحسب ما يتوافر لديه من معلومات قد يكون بعضها مضللاً لتوريطه، وهكذا يتحول الصراع إلى نوع من حروب المدن التي لا يمكن التكهن بمساراتها ونتائجها.
الإتفاق الذي وقع مؤخراً بالمملكة العربية السعودية ويقضي بالالتزام بالقواعد الانسانية في القتال لا يمثل وقفاً لإطلاق النار، بحسب تصريحات أمريكية، حيث يلتزم الطرفان فيه بحماية المدنيين في جميع الأوقات، مع السماح لهم بالمرور الآمن لمغادرة مناطق الاشتباكات، والتأكيد على عدم اتخاذهم دروعا بشرية، ويلتزم الجانبان بعدم إتخاذ المرافق العامة والخاصة، مثل المستشفيات ومرافق المياه والكهرباء، للأغراض العسكرية، والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين في مختلف أرجاء البلاد، وعدم عرقلة عمليات المنظمات الإنسانية، وهذا بحد ذاته يمثل تقدماً كبيراً يتعلق بالشق الانساني من الأزمة، ولكن المعضلة في هذا الإتفاق أو “وثيقة النوايا” كما أسمتها الخارجية الأمريكية في بيانها، تبقى في آليات مراقبة كيفية تنفيذ الاتفاق، أو بالأحرى التأكد من تنفيذه، وحدود مسؤولية أي من الطرفين عند حدوث أي خرق او انتهاك للاتفاق، حيث يصعب التيقن من مسؤولية أي طرف في ظل الاتهامات المتبادلة منذ بداية الأزمة عن الانتهاكات والتجاوزات الانسانية.
الأمر الايجابي أن الاتفاق يمثل خطوة جيدة نحو التوصل إلى إتفاق لوقف لإطلاق النار، حيث تراعي دبلوماسية الوسيطين السعودي والأمريكي طبيعة الصراع فتنتهج نهجاً متدرجاً يمكن أن يقود بالنهاية إلى وقف دائم للقتال، عبر بناء الثقة التي يفتقر إليها الطرفان بشكل تام في الوقت الراهن. والأمر الآخر أن الاتفاق يمثل بادرة أمل لتفادي مجاعة محتملة في ظل انقطاع الامدادات ونفاذ متوقع للمخزونات، حيث يحذر برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة من ازمة جوع قد تطال نحو 19 مليون سوداني، ومايضاعف أهمية الاتفاق كذلك أنه يمثل بارقة الأمل المتبقية بعد فشل جميع المبادرات الإقليمية ـ العربية والإفريقية ـ الهادفة لاحتواء الأزمة.
معضلة الصراع في السودان ـ كما ذكرت سابقاً ـ تبقى في عوامل عدة منها تأثير التشابكات الإقليمية والدولية، وتجذر العداء الشخصي الدفين بين “الجنرالين”، وهو ماأكده بالفعل الفريق البرهان في تصريحات متلفزة بقوله إن “الأزمة مع متمردي الدعم السريع قديمة، حيث يريد محمد حمدان دقلو وشقيقه عبد الرحمن ابتلاع السودان بجملته بالقوة العسكرية”، بالإضافة إلى قناعة كل من الجنرالين بقدرته على الحسم العسكري، في حين أن مثل هذه الصراعات العسكرية اللامتماثلة لا يمكن حسمها بشكل نهائي وجذري.
في ظل الشواهد القائمة ميدانياً، يصعب توقع مسارات الأزمة في السودان، فهناك الملايين لا يزالون داخل بيوتهم على أمل وقف القتال، واستمرار الوضع الراهن سيدفع الكثير من هؤلاء إما للنزوح كسابقيهم، أو التورط في الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد يتحول الأمر إلى صراعات مناطقية أو جهوية، حيث تشير خبرات سابقة، إلى أن المدنيين يضطرون لحمل السلاح بالأخير للدفاع عن أنفسهم أو للمشاركة في المعارك مع هذا الطرف او ذاك سواء بدافع/ قناعة سياسية أو أيديولوجية، أو حتى بدافع البحث عن الأموال لتوفير سبل الحياة.
المأمول ألا تمضي الأزمة السودانية في مسار سلكته أزمات عربية وإفريقية لا تزال قائمة، وأن تنجح الجهود السياسية في نزع فتيل الصراع، فرغم أن الآمال في نجاح جهود الوساطة تبقى محدودة في ظل غياب الثقة بين الفرقاء بل انعدامها، ولكنها قائمة شريطة توسيع دائرة الوسطاء والشركاء الإقليميين والدوليين، للتعاطي بواقعية مع جذور الصراع وأسبابه ودوافعه، وكي يمكن الحديث عن نقاشات وتوافقات مجدية تتفادى تكرار ماحدث في أزمات أخرى مثل ليبيا وسوريا، حيث كان حصر الحوار بين أطراف دون أخرى سبب من أسباب إطالة أمد الأزمات وتلاشي أي أثر لأي إتفاق يتم التوصل إليه، لاسيما في ظل إرث وواقع الأزمات التي يعانيها السودان على الصعد كافة: أمنياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً ومعيشياً.