هل أسواق النفط بحاجة إلى “أوبك” و”أوبك+”؟ (2 من 2)
بقلم: أنس بن فيصل الحجي
تحتاج إلى إدارة والسبب هو أن الصناعات الاستخراجية تختلف عن غيرها
النشرة الدولية –
توصلنا في الحلقة السابقة إلى أن هناك أضراراً عدة لمنتجي النفط ومستهلكيه من ارتفاع الذبذبة في الأسواق، وأن فترات الاستقرار النسبي سببها إدارة السوق، وأن توقف الحكومة الأميركية عن إدارة السوق في أوائل الثمانينيات ألقى الكرة في ملعب “أوبك”، و”أوبك” لم تكن مستعدة وقتها لإدارة السوق فانهارت الأسعار.
وحاولت دول “أوبك” مرات عدة إدارة السوق ولكنها لم تستطع، لأنها تفقد كل ما كانت الأخوات السبع تملكه: حصة سوقية كبيرة تجاوزت 90 في المئة، إضافة إلى السيطرة على السوق عمودياً وأفقياً.
ومرت “أوبك” بفترة طويلة من التجارب، التي كان بعضها كارثياً كما حدث في منتصف الثمانينيات أو الفترة بين عامي 1997 و1999. فقد كان قرار زيادة الإنتاج بشكل كبير عام 1997 من أكثر القرارات كلفة في تاريخ المنظمة سواء نتيجة خسائر الإيرادات، أو الموارد الطبيعية التي بيعت بأسعار منخفضة جداً.
وحاولت دول “أوبك” سلوك طرق عدة للتغيير من مسار الأسعار مثل مفاجأة السوق بتخفيضات أكبر من المتوقع أو تبني نطاق سعري، ولكن قدرتها على إدارة السوق بقيت محدودة. وتشير البيانات ونتائج النماذج الرياضية إلى أن السعودية وأحياناً بالتعاون مع بعض الدول الأخرى هي من حمى السوق من تقلبات كبيرة، إلا أن هذه القوة السوقية للسعودية ومن حالفها تم إسباغها على “أوبك”، ولكن “أوبك” كمجموعة لا أثر لها إلا الأثر الناتج من التحركات السعودية والدول التي تعاونت معها.
باختصار وفي أرض الواقع كل التخفيضات والزيادات الكبيرة التي أثرت في الأسواق ومنعت التقلبات الكبيرة في السوق جاءت من السعودية، ولا يمكن القول إن “أوبك” قامت بها، ولكن تستفيد السعودية ودول “أوبك” من هذه التخفيضات ضمن إطار “أوبك” وتحت مظلة “أوبك”.
ومع حلول عام 2015 أصبح واضحاً لأسباب اقتصادية وسياسية واستراتيجية أن دور “أوبك” تلاشى، على رغم أن دور السعودية وحلفائها في الخليج لم يتغير، وذلك بسبب ثورة النفط الصخري الأميركية وزيادة إنتاج روسيا وزيادة إنتاج دول أخرى مثل البرازيل. انهارت الأسعار في عامي 2015 و2016 بسبب عدم قدرة دول “أوبك” على التوصل إلى اتفاق لخفض الإنتاج، فنتج من ذلك قيام بعض هذه الدول بزيادة إنتاجها بما في ذلك السعودية.
الدرس هنا واضح تماماً، عندما تم التخلي عن إدارة السوق انهارت الأسعار وزادت الذبذبة، ومن الواضح أيضاً على رغم أن الحصة السوقية للسعودية منخفضة مقارنة بحصة الأخوات السبع، أو بالسيطرة القانونية لسكة حديد تكساس، إلا أن لها دوراً في منع التقلبات الكبيرة في السوق.
ويرى بعض الخبراء أن ما حدث عام 2015 هو نوع من إدارة السوق أيضاً، ويماثل ما حصل في منتصف الثمانينيات، وما حصل في مارس (آذار) 2020، المنتج الأكبر السعودية في محاولة للم شمل دول “أوبك” حول قرار واحد، ورفض بعض الأعضاء الالتزام، رفع الإنتاج وخفض الأسعار كعقوبة حتى يعودوا إلى طاولة المفاوضات والالتزام بخفض الإنتاج، بحيث لا تتحمل السعودية وحدها عبء خفض الإنتاج. لهذا يعتبر هؤلاء الخبراء أن ما حصل هو تطور في إدارة دول “أوبك” للذبذبة في أسواق النفط، عن طريق فرض قرار الخفض لأن المفاوضات لم تنجح.
مسألة العقاب هنا خلافية وكل فريق له أدلته، إلا أنه من المنطقي ألا يكون هناك تصريح رسمي حول الموضوع.
مع تلاشي دور “أوبك” أصبح واضحاً أنه يجب إما إعادة هيكلة “أوبك” لتتواءم مع الأحداث، أو تغيير الوضع ليتواءم مع زيادة الإنتاج خارج دول “أوبك”. وتم تبني الخيار الثاني بتوقيع اتفاق تحالف “أوبك+”، الذي يضم دول “أوبك” الـ13 إضافة إلى 10 دول من خارج دول “أوبك”، أهمها روسيا.
بغض النظر عن التصريحات الرسمية، هناك خلاف بين الخبراء حول هذا التحالف. مثلاً هل هو تحالف نفطي فقط ويقتصر على أسواق النفط أم أكبر من ذلك؟ هل هو تحالف سعودي – خليجي – روسي أم أنه تحالف بين دول “أوبك” ودول خارج “أوبك”؟ وهل هو تحالف سعودي – خليجي – روسي نفطي أم تحالف استراتيجي؟ كما في كل الحالات التي ليس لها حد فاصل، كل فئة لها أدلتها.
الهدف المعلن لتحالف “أوبك+” هو الأهداف القديمة نفسها لدول “أوبك”، التي تتضمن تحقيق الاستقرار في السوق، الفرق في كمية الإنتاج التي يسير عليها التحالف، بخاصة مع وجود روسيا التي وصل إنتاجها في بعض الأوقات إلى 11 مليون برميل يومياً. ونظراً إلى الأسباب نفسها التي حجمت من دور “أوبك” والسعودية من إدارة الأسواق كما أدارتها الأخوات السبع، يقتصر دور تحالف “أوبك+” على منع الذبذبات الكبيرة في السوق. وهناك عديد من الأدلة التي تشير إلى نجاح التحالف في ذلك، بخاصة في عام 2018. المشكلة هنا أن الفعالية ما زالت للدول الكبيرة، وعبء الخفض الأكبر ما زالت تتحمله السعودية. الذي أفشل محاولات تحقيق الاستقرار النسبي في الأسواق هو “السياسة”! فقد قرر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب إعادة تطبيق العقوبات على إيران، التي تتضمن حظراً نفطياً، فطلب من بعض دول “أوبك” أن تقوم بالتعويض عن النقص الذي يمكن أن يحصل نتيجة ذلك، فقامت بعض هذه الدول بزيادة الإنتاج، لتتفاجأ بإعطاء ترمب استثناءات لكل زبائن إيران، واستمرت إيران بالتصدير على رغم العقوبات، فانخفضت الأسعار بشكل كبير وزادت التقلبات في السوق.
ولعل أكبر حدث في تاريخ “أوبك” و”أوبك+” هو ما حدث بين 2020 و2022، فمع إغلاقات كورونا انهار الطلب العالمي على النفط، وأصبح واضحاً أنه يجب خفض الإنتاج بكميات كبيرة، كما أصبح واضحاً أن السعودية لوحدها لا تستطيع تحمل هذا العبء بسبب ضخامة كمية الخفض، فأقرت المجموعة خفض الإنتاج بمقدار 9.7 مليون برميل يومياً، ثم طورت نظاماً للاجتماعات والمراقبة والمتابعة لم يكن موجوداً من قبل. ونجحت المجموعة نجاحاً كبيراً في ذلك، وأسهمت في تحقيق استقرار نسبي في الأسواق ورفع الأسعار إلى السبعينيات.
هنا وللمرة الأولى في تاريخ هذه المجموعة تحققت شروط النجاح، التعاون والمراقبة والمتابعة التي صاحبها ضغوط على الدول المخالفة للالتزام، وتطوير نظام للتعويض عند تجاوز بعض الدول لحصصها.
باختصار ما أنقذ السوق وما أسهم في استقراره عام 2021 و2022، هو إدارة السوق! نعم ما زالت “أوبك+” أقل قوة من الأخوات السبع، وقدرتها على التحكم أقل بكثير، ولكنها تستطيع إدارة السوق وحمايتها من التقلبات الكبيرة.
الاجتماعات الشهرية والمراقبة والمتابعة أسهمت بشكل كبير في هذا الاستقرار، ولكن علينا أن نتذكر أن هذا أمر مكلف من ناحية الوقت ومالياً.
الاجتماعات الشهرية والمراقبة والمتابعة تذكرنا بفترة الخمسينيات قبل تأسيس “أوبك”، إذ أعلن الشيخ عبدالله الطريقي الذي أصبح فيما بعد أول وزير للبترول في السعودية، ومعه الوزير الفنزويلي والفيلسوف ألفونسو بيريز، أن هدف منظمة “أوبك” التي يزمعون تأسيسها بمشاركة خمس دول (السعودية وفنزويلا والكويت والعراق وإيران) هو التخلص من الاعتماد على إيرادات النفط بأسرع وقت ممكن، وتحقيق التنمية الاقتصادية فيها عن طريق إيجاد اقتصاد مستدام متعدد المدخول. وحتى يتم ذلك لا بد من الحصول على أفضل سعر للنفط الخام، وهذا لا يتم إلا بمواءمة المعروض للطلب على النفط في كل الأوقات. هذه الأفكار لم تطبق إلا في عامي 2021 و2022، بخاصة مع وجود رؤية 2030 في السعودية، ومحاولات تنويع مصادر الدخل في دول “أوبك+” الأخرى.
باختصار كان هناك توافق بين رؤية “أوبك” الأصلية ورؤية السعودية 2030، وما قامت به دول “أوبك+” بين عامي 2020 و2022. ومن أهم نتائج هذه الرؤى والتصرفات أنها قللت من الذبذبات الكبيرة من جهة، وحققت أسعاراً أعلى من جهة أخرى، وأعطت “أوبك+” صدقية كبيرة.
وكما حصل في عام 2018 عندما “خرب” الرئيس ترمب جهود “أوبك+”، خرب الرئيس فلاديمير بوتين جهود “أوبك+” بالهجوم على أوكرانيا، ثم قيام الدول الغربية بفرض حظر على النفط الروسي، وروسيا عضو في تحالف “أوبك+”. الفكرة هنا أن السياسة تسهم في تعطيل قدرة “أوبك+” على القيام بدورها على أكمل وجه. من هنا نرى كيف تأثرت جهود “أوبك+” سلباً في تقليل الذبذبة في الأسواق خلال 2023، وإن كنت أزعم أن التخلي عن الاجتماعات الشهرية أسهم في ذلك أيضاً. ولكن كما ذكرت هناك صعوبات كثيرة في ذلك بسبب الوقت والمال، إلا أن وجود اجتماعين في العام كما هو الحال لا يكفي أيضاً.
خلاصة القول إن أسواق النفط بحاجة إلى إدارة، ولا يمكن تركها لقوى السوق. السبب هو أن الصناعات الاستخراجية تختلف عن غيرها من الصناعات، ومن ثم فإن خفض التقلبات وتحقيق الاستقرار وزيادة الكفاءة وخفض التكاليف ووقف الهدر وضمان نمو الطلب على النفط في وقت يحقق فيه المستثمرون عائداً مجزياً على استثماراتهم يتطلب إدارة السوق. وتوضح البيانات التاريخية أن فترات الاستقرار النسبي تحققت بسبب إدارة السوق، وفترات التقلبات الشديدة حدثت بسبب عدم وجود مدير.
أخيراً إذا تخلت السعودية أو المجموعة الفاعلة ضمن “أوبك+” عن إدارة السوق فإن السوق ستدار من المضاربين في البداية وستزيد التقلبات بشكل خطر، بعدها ستتدخل الدول المستهلكة وستجد بديلاً عن “أوبك+” إما في منظمة مثل وكالة الطاقة الدولية، أو عن طريق إدارة السوق عبر التحكم بالواردات والصادرات وفرض ضرائب عالية على المنتجات النفطية.
العالم بحاجة إلى “أوبك+”! العالم بحاجة إلى مواءمة الإنتاج للطلب على النفط باستمرار، تماماً كما قال الشيخ عبدالله الطريقي، رحمه الله، في مايو (أيار) 1960!