الصراخ في أبراجنا الافتراضية

النشرة الدولية –

العرب – يمينة حمدي –

لا تفكر في سؤال صديقك أو أحد أفراد عائلتك عن شيء ما وهو منغمس في هاتفه يطارد أحلامه الوردية، ولا يلتفت إلى سواه، فحتما ستكون إجابته بنعم أو لا، من دون أن ينظر إليك، وبلا أي تفكير عقلاني، وفي كلتا الحالتين، فإنه لا يعرف عما يجيب، لأن جهازه الذكي يستحوذ على وقته وعقله، ويمنعه من التفكير خارج بوصلة عالمه الافتراضي المليء بكم هائل من مصادر المتعة والتشويق والتشويش.

هناك نظرية ابتكرها عالم النفس الأميركي وليام جيمز في القرن التاسع عشر، تقول إن نظام التركيز البصري لدى البشر يمر عبر بقعة ضوئية مخصصة للانتباه، وهي البقعة التي تمر على جميع الأشياء من حولنا بشكل خاطف، قبل أن تركز على شيء مهم بالنسبة إلينا.

تلك البقعة الضوئية المخصصة للانتباه، تتيح للدماغ إمكانية التركيز على شيء واحد مهم، أما ما يقع خارج نطاق تلك البقعة الضوئية فليس بمقدورنا التركيز عليه أو التعامل معه بشكل واع.

يمكننا من خلال هذه النظرية أن نفهم كيف تستحوذ الهواتف الذكية على اهتمامنا أكثر من أي شيء آخر بحكم العادة والتعود، وتسيطر على البقعة الضوئية المخصصة للانتباه في عقولنا، وتدريجيا تتلاشي قدرتنا على السيطرة على حياتنا الواقعية، ويصبح الارتباك هو سيد الموقف.

لكن الأمر الأقل وضوحاً هو كيف يمكن أن تؤدي الهواتف الذكية إلى جعل تواصلنا مع الآخر الموجود معنا في نفس المكان والزمان صعبا أو غير مستحبّ؟ وبالتالي تغيّر الطريقة التي نتعامل ونعيش بها الواقع. من شأن ذلك أن يكون له نتائج سلبية كبيرة، إذا ما أطاح الهاتف الذكي بمنظومات القيم والأخلاق والقناعات والأفكار، وجعلنا أكثر إهمالا لبيئة العمل، ولأفراد الأسرة، وأكثر انفصاما عن الواقع، واتصالا بعالمه السيبراني.

تتوفر اليوم الكثير من القصص الواقعية والأدلة العلمية على أن الإفراط في استخدام الهواتف ليس أمرا ذا فاعلية مطلقة للجميع، بل قد يقود إلى تفكير أكثر سطحية، ويقتل الإبداع، ويزيد من الأخطاء، ويقلّل القدرة على استيعاب المعلومات، رغم أن “التمكين التكنولوجي” له عدة فوائد ومزايا سهلت حياة الأفراد والمجتمعات، وحتى الكائنات، ووفرت الكثير من الجهد والمال والوقت.

معظم الأشخاص ليسوا مدمنين بالفعل على استخدام الهواتف الذكية أو على التطبيقات الموجودة فيها، بل على ذلك الصراخ في الفراغات التي يوفرها لهم العالم الافتراضي، ففي مقدورها أن تحتوي أحلامهم وآمالهم الكبيرة وتنصت لهم أكثر من الأشخاص الذين يعيشون معهم، وتساعدهم على حل مشاكلهم وحتى على تحقيق تطلعاتهم وطموحاتهم.

من السهل جدا إثارة ذلك الحافز الإنساني الذي يدفعنا للتنفيس عن ذواتنا وفهم أنفسنا وتقديرها، واكتشاف ذلك الآخر المختلف عنا، والموجود في عالم غير عالمنا، بيد أن البعض ينغمس أكثر فأكثر في هذا العالم الافتراضي، فيسيطر عليه بدلاً من أن يسيطر هو عليه.

عندما سألت أحد أقاربي إن كان في مقدوره التخلي عن هاتفه، قال إن مجرد التفكير في ذلك قد يصيبه بالجنون، فهاتفه يضيف إلى حياته معنى وغاية، وبدونه يشعر أن الحياة بلا قيمة، لدرجة أنه يجد تحديا حقيقيا في التخلي عن هاتفه ولو للحظات قليلة في اليوم، الأمر يبدو بالنسبة إليه خارجا عن قدرته على تحمل هذا النوع من الحرمان التكنولوجي.

وقالت إحدى صديقاتي إنها تواجه صعوبات كبيرة مع ابنها المراهق الذي يعيش في “برجه الافتراضي”، ويصب كل طاقاته في التركيز على هاتفه الذكي، ولا يعرف الوقت الذي يتعين عليه الحصول فيه على استراحة لتناول طعامه أو لمراجعة دروسه، أو ليأخذ كفايته من النوم، وقد كان ذلك كافيا لإخفاقه في دراسته.

حتى أثناء المناسبات الممتعة مع الأقارب يختلي ابن صديقتي بنفسه ويمسك بهاتفه الذكي، فتتحول الثواني القصيرة إلى ساعات طويلة، من دون أن يدرك كم الوقت الذي أهدره وهو في قمة الانشغال بعالمه المصغر الموجود في جيبه.

هناك شكوى متزايدة في الأوساط الأسرية والمدرسية بأن أجيال الهواتف الذكية تعاني من حالة من الشرود الذهني، ويمثل عدم التركيز في الفصل مشكلة عامة تعيق الأداء المدرسي، وتتسبّب في نسيان التلاميذ والطلبة أشياء كثيرة، وصعوبات في استيعاب المعلومات والاستجابة للمعلومات التي يستقبلونها من عالمهم الواقعي، والسبب هو سيطرة الهواتف الذكية على دوافعهم الطبيعية للتركيز والتعلّم.

حتى في فترات الاستراحة القصيرة سواء في المدرسة أو في المنزل، لا ينفصل معظم الأطفال والمراهقين نهائيا عن أجهزتهم الذكية من الناحية الذهنية، وحتما، فإن نسبة كبيرة منهم تشعر بالكثير من الضغط حين تتخلى عن الهواتف الذكية في الفصول وقد يستعمله البعض خلسة، ومن ثم تبدأ عقلوهم في الشرود والانفصال عن الواقع، وهو أمر مجهد للدماغ بشكل عام، وقد يؤدي مع مرور الوقت إلى زيادة التوتر، وتراجع القدرة الفكرية على التركيز بشكل عام.

وهنا تُطرح العبرة القديمة المتعلقة بـ”الطبع في مواجهة التطبّع”، وعما إذا كان الإنسان يولد مدمنا على الهاتف الذكي، أم أنه يكتسب تلك العادة من وسطه الأسري والاجتماعي ويطوّرها مع مرور الوقت؟

شخصيا، أعتقد أن الزمن قد عفا على مقولة الآباء المأثورة “افعلوا ما نطلبه منكم ولا تقلدونا في ما نفعل”، خاصة في ما يتعلق باستخدام الهواتف الذكية، فعندما يفطُم الآباء أنفسهم عن استخدام الهواتف الذكية بإفراط، حينها فقط ستشفى الأجيال من مرض “النوموفوبيا”.

عليهم أن يتذكروا قبل أي شيء أن أبناءهم على متن قطار الهاتف الذكي السريع بمفردهم، والخوف كل الخوف أن يحدد هذا القطار مساراته بنفسه.

زر الذهاب إلى الأعلى