أثر باكستان المأزومة علينا!
بقلم: محمد الرميحي

النشرة الدولية –

وكأننا بعيدون من الأزمات التي تخنقنا في المنطقة العربية، لتأتي أزمة باكستان الجارة المسلمة لتزيد الاختناق وتضيّق المخارج.

منظر رئيس وزراء باكستان السابق عمران خان وهو محاط بثلة من العسكر المسلح وأحدهم يقبض على رقبته والثاني يكتّفه ويجره جراً من قاعة محكمة إلى سيارة مصفحة، منظر شهده العالم، ويكاد يتكرر في هذا البلد المنكوب بنخبتيه السياسية والعسكرية.

من نحو ثمانية وعشرين رئيساً للوزراء منذ استقلال باكستان عام 1948، قلة منهم نجت من الإهانة أو القتل، بعضهم شُنق وآخرون قُتلوا، وبعضهم فر بجلده إلى المنفى، كان الاضطراب هو الميزة المصاحبة للعمل السياسي في هذا البلد.

مجرد أن تضطرب باكستان تُجرى المقارنة بينها وبين الهند الجارة والقريبة، فالنسيج الاجتماعي بين الدولتين متقارب، وغير المختص لا يستطيع أن يفرق في حال قابل شخصاً من القارة الهندية، إن كان باكستانياً أو هندياً، فلماذا نجت الهند نسبياً من كل ذلك الاضطراب السياسي وسقطت فيه الجارة باكستان؟ بعضهم يفسر ذلك بأن الهند أكثر تعددية عرقية واجتماعية وفئوية ولغوية من باكستان، لذلك احتاجت إلى عقد اجتماعي حديث وتمسكت به، وهو الدستور الهندي الذي نظم العلاقات. ولم تسقط البلاد، رغم الخلاف الداخلي، في شقاق مناطقي، كما حدث لباكستان التي تتميز بشريحتين كبيرتين هما البنجاب والسند، وفيهما عصبية إقليمية وتتحكم فيهما أسر إقطاعية، كما أن دور العسكر في الهند كان منضبطاً منذ الاستقلال، أما العسكر الباكستاني فقد دسّ أنفه في السياسة تحت شعار كبير هو الحفاظ على الدولة والدفاع عنها ضد أعدائها! أول رئيس وزراء باكستاني لياقت علي خان اغتيل في عام 1951 وآخر رئيس تمت محاولة اغتياله، فالحلول السياسية في باكستان تبدأ وتنتهي بالرصاص.

لم تتصالح باكستان السياسية مع الديموقراطية، فقد مرت فترة تميزت بحكم عسكري دكتاتوري بدأه الجنرال أيوب خان عام 1958، وقد أجبر في نهاية الأمر على الاستقالة، وتميز حكمه بالقمع العسكري رغم محاولاته إنعاش الاقتصاد، وأعقبه دستور جديد ورئيس وزراء شعبي هو ذو الفقار علي بوتو الذي أنشأ نظاماً برلمانياً، لكنه ما لبث أن علق على المشنقة في تداخل دولي ومحلي على خلفية سعيه إلى إنتاج سلاح نووي، عاد بعده الحكم إلى العسكر في فترة ضياء الحق عام 1977 التي قادت حكومته باكستان إلى ما عُرف بـ”الأسلمة” وسنّت قوانين إسلامية، هروباً من استحقاق ديموقراطي، وساند عمليات التصدي للسوفيات في أفغانستان. وما لبث الجنرال أن مات في حادث طائرة لم يكشف عن ملابساته حتى اليوم! الحكم المدني بعد ضياء الحق لم يكن مستقراً، فعاد الجنرالات مرة أخرى وتسلم الحكم برويز مشرف الذي طرد من البلاد بعد فترة عقب اضطرابات كبرى، وعاد البلد إلى ما يعرف بالفترة الأخيرة من الحكم الدستوري بعد عام 2008.

حقب متتالية واضطرابات مستمرة، كان الاقتصاد والتنمية والإنسان هم الضحية الأولى لهذا الاضطراب، عمران خان وحكومته لم يستفيدا من الدروس السابقة والمهلكة، فقدم برنامجاً غازل فيه الإسلام الحركي الباكستاني وذهب بعيداً من حلفاء باكستان التقليديين، وأيضاً لم يكن نظامه بعيداً من الفساد، فكان أن أطيح به وشهد العالم تكبيله وجره إلى السيارة المصفحة ذاتها، في الوقت الذي هاج مناصروه في الشارع وحطم بعضهم منشآت عسكرية ومدنية في مظهر باكستاني متكرر.

ما يمكن الانتهاء إليه أن هذه البلاد غير قادرة على البقاء خارج الاضطراب، لا تحت حكم العسكر ولا تحت الحكم المدني، إذ إن هناك عوامل منها الجغرافيا التي فصلت في وقت لاحق بعد الاستقلال عن بريطانيا جناحها الشرقي بنغلادش عن جناحها الغربي، واستمر النزاع بين السند والبنجاب وبين العسكر والمدنيين، ولم تُهيأ لها حكومة حديثة وعقد اجتماعي يعترف بالمكونات المختلفة التي تشكلها البلاد ويقدم خططاً تنموية، رغم الغنى النسبي والطبيعة والموارد المتاحة.

تشرف الحكومة الحالية على أكبر نسبة تضخم عرفتها البلاد، وعلى مجتمع منقسم وعلى توجهات سياسية تغذيها الطموحات إلى التشدد، وفساد كبير، قد يقود من جديد إلى طموح عسكري يعيد الساعة إلى الوراء في تبادل لا ينتهي بين العسكر والحكم المدني.

باكستان ليست استثناءً ممّا نشاهده حولنا من فشل الدولة، إلا أن الأخطر أنها دولة نووية تحمل بين أسنانها عدداً من العدة النووية الفتاكة، وإن وقعت في اليد الخطأ أو اضطرت حكومة ما للمتاجرة بتلك التقنية، فإن الإقليم والعالم لن يناما مرتاحين.

لذلك فإن ما يحدث في باكستان يشغل دول الجوار بعمق، الهند مثلاً وحتى الصين وإيران والعرب، ولا يبدو أن هناك مجالاً لإقناع السياسيين الباكستانيين بالتوافق في ما بينهم. هي عملية كسر عظم وعدم قبول كامل بالتعددية، هذا ينطبق على جماعة عمران خان وأيضاً على الحكم القائم.

علة باكستان في البعثرة السياسية وغياب نموذج للحكم. بعد ثلاثة أرباع القرن من التجارب بين العسكر والمدنيين والغطاء الديني، ما زالت في التيه السياسي، وقد أنتجت نموذجاً مشوهاً أساسه الصراع على السلطة بين أصحاب المصالح، ما يؤهّلها للدخول في حرب أهلية لا تبقى شرورها محصورة في جغرافية باكستان، بل تتعداها إلى الجوار، وهنا الأخطر.

 

Back to top button