بين “سحر الخيال” وجاذبية وصدمات الواقع: هل على الدراما أن تنقل الواقع كما هو؟
النشرة الدولية –
عربي 21 – بثينة عبد العزيز غريبي –
جرائم قتل بشعة: فقد يقتل الأب ابنه وقد تقتل الزوجة زوجها. تفشي العنف بكلّ مظاهره في تفاصيل الحياة اليومية. هجوم وسرقة وقتل وسفك للدماء وسلب واعتداء واغتصاب وترويج مخدرات وعنف في كلّ أشكاله وبكل ما يبيحه منطق: “الغاية تبرّر الوسيلة”.
يسود الفضاء العام الواقعي والافتراضي، ممارسات العنف والإجرام وهي صادمة في غالبيّتها. فلماذا حين تنتقل هذه القضايا إلى التلفزيون من خلال الدراما تتحوّل إلى محلّ جدل ورفض واستنكار وتعتبر تشويها للواقع؟ أليس دور الدراما طرح قضايا المجتمع من نظرية المسؤولية المجتمعية؟ أم أن الفن يتطلب “نعومة” في المعالجة تحتّم عمليّة غربلة تبعد عن “كاميرا” المخرج كل ما هو مزعج وصادم؟
الإشكال الذي يعترضنا في معالجة علاقة الدراما بالواقع. هو أنّنا لسنا أمام جمهور واحد وإنّما أمام جماهير. فجمهور يتابع الدراما الواقعية “الصادمة” ويندّد بها وجمهور يتابعها وتروق له وجمهور يقاطعها. وجمهور يتأثّر بالرأي السائد والمتداول على مواقع التواصل الاجتماعي وهو الجمهور التابع. ويمكن أيضا تجزئة هذا الجمهور من منطلق النخبة بما هم النقاد والأكاديميون والصحافة وأهل المجال. والجمهور الذي يضمّ عامّة الناس.
ولكن هذا الإشكال قد نجد له مخرجا في نقطة الالتقاء بين كلّ هذه الجماهير وهي الفرجة في كل الحالات والظروف ومهما كان الموضوع وردّات الفعل عليه. وغالبا ما تستقطب الأعمال التي تقوم على السلوكيات الصادمة الجمهور وهو طبعا ما يروق لمشاهير السوشيال ميديا والممولين. فالمشهور لا يهتمّ إن كانت المتابعة سلبية أو إيجابية، فالأهمّ من كل ذلك عنده هو الرقم كم؟
بعيدا عن هوس المشاهير بالأرقام، فنحن مدعوون إلى التفكير في ديناميكية العلاقة بين الدراما والواقع، فربّما توصلنا إلى تحديد وظائف جديدة للدراما وتثويرها في سياق مختلف عن السياقات البشرية السابقة وخاصة مع الثورة الرقمية التي كلّست المشاعر الإنسانية وجعلت من البشر أكثر وحشية وانحرفت بالسلوكيات الاجتماعية إلى أقصى حدّ من النزعة الحيوانية.
ونحن مطالبون بالعودة إلى ثلاثة أبعاد أساسية لمفهوم الدراما: أوّلا الدراما كفن، الدراما كمضمون يعالج واقع المجتمع والدراما كأداة اتصال عبر التلفزيون، لها التزاماتها والسؤال المطروح الآن كيف يمكن الموازنة بين كلّ هذه الالتزامات؟
الدراما كفن
الحديث عن الدراما من الزاوية الفنية هو التركيز على البناء الدرامي للنص وبناء الشخصيات والحوار والترميز في التعبير عن الموضوع المطروح وكل ما يشكّل البنية الفنية لهذا العمل. في العادة أو الفكر الذي يروّج كلما تعلّق الأمر بعمل فني أهمية الرمز والترميز والابتعاد عن المباشرتية حتى في طرح القضايا الواقعية. فالدراما فن له جماليّاته مثل بقية الفنون ومن بين شروط الجمالية تشكيل صور قادرة على أن تحلّق بالعقل وتفتح له بوّابات التفكير في القضية المطروحة وليس استهلاكها بطريقة سطحية. ولكن ما نلاحظه في الأعمال الدرامية المقدمة أنّها تعيد تصوير الواقع في جوانبه السلوكية الوحشيّة دون إحداث أي موازنة مع الجوانب الأخرى. فتكتفي بتقديم الأزمة وعزلها عن سياقاتها وإخضاعها للحاجة التي تسكن فريق الإنتاج لإحداث الإثارة وليس للحاجة فعلا للمعالجة بإدماج الأزمة أو الظاهرة في بيئتها. الطرح الأحادي يستفز النخبة ويرجّ الجمهور ولكن ليس تلك الرجة التي تحفّزه على التغيير. من هنا نتوصّل إلى أنّ الإشكال ليس في المباشرتية أو الترميز ولكن الإشكال الحقيقي كيف نطرح القضية داخل بيئتها وتفاعلاتها مع العناصر المرتبطة بها؟ وهذا مرتبط بمدى الجدية والحرفية في كتابة النص الدرامي أو تشكيل عناصر القصة.
في هذا السياق وفي تصريح لـ “عربي21” تقول السيدة بشرى جعفر أبو العيس، مساعدة مدير عام دائرة السينما والمسرح (العراق): “الواقع بذاته وثيقة صادمة وجافة، وما نحتاجه لإعادة ترتيب تلك الوثيقة لتكون مقبولة إضافة سلسلة من العوامل. إضافة تجعل من الوثيقة مجرد أثر صغير تجري عليه عمليات كبرى لا لتغييره بل لتجميله وتحسينه بما يضفي عليه طابع القبول بل طابع التلهف لإعادة اجتراره وتكراره دون الملل منه”.
وتذكر محدّثتنا أنّ من بين هذه العوامل: “ضبط لعبة الصراع وتناقض الأفعال لجعلها متكافئة بغية شد المتلقي وإعادة تنظيم الأحداث لا بهدف إيضاح الوثيقة كما ولدها الواقع بل بهدف تناسبها في التسلسل الافتراضي الذي يلده المبدأ الدرامي وزيادة في الشحن العاطفي للتأثير سلبا أو إيجابا وإعادة ضبط الزمن فنيا وليس كما هو في وثيقة الواقع فيزيائيا. وإعادة ضبط الشخصيات بما يتناسب وتعظيم الخير أو تعظيم الشر بغية تناسب التقابل بين الطرفين. وتقديم معالجات فكرية أو فنية أو جمالية فيما يخص وثيقة الواقع.. وتقديم معالجات في الرسالة التي ينبغي لها أن توجه قيم المتلقي نحو الفضيلة ونبذ الشر أو الضعف الذي من شأنه أن يحرف السلوك السوي أو يقلب القيم نحو الرذيلة والتشويق وتطهير المتلقي من أدران الشرور أو الأخطاء التي تسيء إلى نفسه أو علاقاته أو قيمه”.
ويتفق زين العابدين المستوري (ممثل وسيناريست من تونس) مع ما تقوله الدكتورة بشرى من العراق، إذ بالنسبة له: “لا يجب على الدراما نقل الواقع كما هو، لأنّ الخيال هو سلاح الكاتب والواقع هو فقط مصدر استلهام ومصدر للأفكار”. ويضيف المستوري: “لا يمكن نقل العمل الدرامي الواقع كما هو وإلاّ سيصبح أقرب لشريط أنباء أو مقال صحفي يخلو من خيال وطرح الكاتب والمخرج”.
الدراما كمسؤولية مجتمعية
إذا اعتبرنا أنّ الدراما كفن عليها أن تخضع لجماليات معينة أو يتمّ تجميلها كما تقول الدكتورة بشرى ألا يصطدم ذلك مع المسؤولية المجتمعية للدراما؟ ألسنا محتاجين في بعض القضايا أن نعتمد الواقعية بدلا من “التهويم” و”التطويح” بالمتفرّج في خيالاته كما التي تبعده خلال عملية التلقي والتأويل عن أساسيات الرسالة المراد إيصالها من خلال أيّ عمل درامي، إلاّ إذا كان طبعا هذا العمل أو ذاك خاليا من أي رسالة.
يقول المسرحي يوسف هنون من المغرب في تصريح لـ”عربي21″: “الفن يحمل بين طياته رسالة مهمة يبعث بها لجمهور المتلقين من خلال وضع أصابعه على مواطن الخلل في كثير من المواقع، ولفت نظر من بيده القرار للانتباه ومحاولة إصلاح ذلك الخلل من خلال ما يوضحه الكاتب في نصه المسرحي أو التلفزيوني، مبينا أن الفن المسرحي أو التلفزيوني مرآة عاكسة لهموم وشجون المجتمع، حتى لو كان ذا طابع كوميدي فإنه يحمل بين جنباته العديد من الإسقاطات على بعض مواقع الخلل. بالتالي فالدراما تحمل رسالة نقل الواقع بكل همومه ومشاكله وإيجابياته وسلبياته بشكل فني قابل للنقاش من خلاله يمكن طرح أسئلة موضوعية في إطار البحث عن حلول آنية أو بعدية”.
الدراما رسالة اتصالية
الدراما فن ومسؤولية مجتمعية وأيضا رسالة اتصالية بل قبل الرسالة هي محمل وأداة اتصال تشكّل جزءا من التلفزيون. وحين نطرح الدراما في علاقة بالتلفزيون فإننا نضعها أيضا ضمن إطار يحتويها وفي الآن ذاته له شروطه ونظامه المختلف عنها. الإشكال أنه غالبا ما يخضع منتج العمل الدرامي وكامل فريق العمل إلى شروط القناة التي ستقتني المنتج بل ويقبل حتى بعمل رقابي مسبق على العمل وإدخال مشاهد لا تخدم أحيانا بناء النص الدرامي استجابة لطلب المشهور خاصة مع ظاهرة الإشهار داخل العمل الدرامي والتي باتت متفشية في جلّ الإنتاجات. كيف إذن لهذه الدراما أن تحافظ على الرسالة التي توصلها عبر التلفزيون كقناة اتصال وكيف يتخلص من “عبء” حراس البوابة الذين يقومون بمراقبة العمل ويفرضون سلطتهم في تركيبه وفي الصورة التي يخرج بها للجمهور. ففي نهاية الأمر وبغض النظر عن حرفية الكتابة وأداء الممثل هناك عوامل أخرى تؤثر على كيفية تلقي أي عمل درامي نذكر من بينها: وقت البث، السياق العام، علاقة القناة التلفزيونية بجمهورها، مدى ثقة هذا الجمهور في إنتاجات هذه القناة أو تلك، شعبية القناة وعوامل أخرى تؤثر على نمط التلقي.
فالجمهور جماهير وعملية التلقي ليست في معزل عن مختلف السياقات والـتأويل يخضع لها حتما.
إنّ الدراما بشكل عام: “مهمة في نشر الثقافة وما تشكل الدراما من جذب واهتمام لكل الجمهور المتلقي بكل الفئات والأعمار، معبرا عن أن الدراما بشقيها المسرحي والتلفزيوني، أصبحت تشكل عاملا تثقيفيا وترويحيا في آن واحد للأسرة” حسب الفنان يوسف هنون. ولكن كيف يتمّ ذلك أو ما هو الأسلوب الذي يضمن الموازنات بين الأسلوب الفني والمضامين التي يجب ألاّ توغل في المباشرتية فتفقد العمل قيمته الفنية أو توغل في الخيالات فتنحرف بنا عن الواقع. تظل المسألة مرتبطة بموازنات على كل مساهم في حلقة إنتاج العمل الوعي بها.