حرب الأربعين سنة… كيف خسرت الولايات المتحدة الشرق الأوسط؟
بقلم: ليزا أندرسون
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية –
حين أعلنت الصين، في آذار 2023، عن دور الوساطة الذي لعبته لإعادة إحياء العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران، اتّضحت سرعة تراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط. بعد فترة قصيرة على وصول الرئيس جو بايدن إلى السلطة، أنهت الولايات المتحدة انسحابها الشائب من أفغانستان، حيث أمضت واشنطن عشرين سنة وهي تحاول جرّ البلد إلى المحور الغربي لكن من دون جدوى. في غضون ذلك، فشلت المساعي الدبلوماسية الأميركية لإعادة إحياء الاتفاق النووي وسط موجة قمع عنيفة أطلقها النظام الإيراني. كذلك، راقبت الإدارة الأميركية وصول أكثر الحكومات اليمينية تطرّفاً في تاريخ إسرائيل إلى السلطة، ما يعني إضعاف المزاعم التي تعتبر البلد ديمقراطياً، وإطلاق موجة جديدة من العنف، وتهديد «اتفاقيات أبراهام» المدعومة من واشنطن.
رغم التحدّيات الهائلة التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط اليوم، بما في ذلك احتدام الحروب الأهلية في ليبيا، وسوريا، واليمن، والانهيار الاقتصادي في مصر، ولبنان، وتونس، وتنامي التهديدات التي يطرحها التغيّر المناخي، واللامساواة، وغياب الاستقرار في المنطقة ككل، وتجدّد النزعة الاستبدادية في كل مكان، لم يتبقَ الكثير من الأجندة الأميركية الطموحة المرتبطة بهذه المنطقة.
في كتاب Grand Delusion: The Rise and Fall of American Ambition in the Middle East (الوهم الكبير: صعود وسقوط الطموح الأميركي في الشرق الأوسط)، يحاول العضو السابق في مجلس الأمن القومي والخبير المخضرم في شؤون الشرق الأوسط، ستيفن سايمون، تفسير مسار هذا الانهيار. هو يعرض الجهود الأميركية الرامية إلى رسم معالم المنطقة، بدءاً من الثورة الإيرانية في العام 1979 وصولاً إلى عودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل، في كانون الثاني 2022، ثم يستخلص دروساً لافتة: كما يشير عنوان الكتاب، كانت استراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط «وهمية»، وهي جزء من حملة «تركيب الأفكار العظيمة» التي أطلقها صانعو السياسة المقتنعون بنواياهم الحسنة تجاه أي منطقة لا يعرفون عنها الكثير ولا يهتمون بها أصلاً. هو يكتب أنها «قصة مليئة بسوء التفاهم، وبالأخطاء الصادمة، وبمستوى قياسي من مظاهر الموت والدمار». قد تكون هذه الاستنتاجات صحيحة، لكنها ليست كافية على الأرجح. تتعلق مسألة أكثر إلحاحاً اليوم بقدرة واشنطن على التعلّم من تلك الإخفاقات الكارثية لتصميم مقاربة بنّاءة في حقبة تراجع النفوذ الأميركي.
نظراً إلى نطاق التورط الأميركي الاستثنائي في الشرق الأوسط في آخر أربعة عقود ونصف، ما الذي يفسّر تخبّط السياسات الأميركية بهذه الطريقة؟ يطرح سايمون في كتابه أجوبة متعدّدة، أبرزها تقييم المسؤولين عن تصميم تلك السياسات. كانت أوساط الرئيس جيمي كارتر «شائبة»، وشملت إدارة رونالد ريغان «خصوماً مراوغين ومتمرّدين» حملوا رؤية «سخيفة بشكلٍ شبه كامل» عن عملية السلام بين العرب والإسرائيليين. أما فريق الرئيس جورج بوش الأب، فقد «أعماه وهج النفوذ الأميركي وتفكيره المبني على أمنيات بسيطة». ثم تعثّر مستشارو بيل كلينتون في الشرق الأوسط «بسبب انجذابهم إلى عقائد شائبة». في المرحلة اللاحقة، بدا جورج بوش الأب «ضيّق التفكير، ولامبالياً، ومندفعاً»، ولجأ إلى «مقاربة بسيطة لمعالجة معضلات السياسة الخارجية». لم تحمل مشاكل باراك أوباما في ليبيا نوايا خبيثة، لكن افتقرت مقاربته إلى الكفاءة. ثم جاء دونالد ترامب الذي كلّف صهره جاريد كوشنر بملف الشرق الأوسط سعياً لترسيخ «رأسمالية المحسوبيات». بعد مراجعة هذا السجل، يصعب ألا نستنتج أن أموال الضرائب الأميركية كانت تدفع رواتب مجموعة صادمة من الفاسدين وعديمي المبادئ.
يعطي سايمون القدر نفسه من الأهمية للمسارات السياسية الشائبة. بدل الاتكال على المنطق أو البصيرة الاستراتيجية، ترتكز صناعة السياسة الأميركية في المنطقة دوماً على «الضرورات السياسية، والثوابت الإيديولوجية، والانفعالات العاطفية، وعملية تنسيق تستلزم شكلاً من الإجماع بين الوكالات المعنيّة من جانب أعضاء الحكومة الذين يحملون أولويات متضاربة في معظم الأوقات». بحسب رأيه، سيجد أكثر المحللين براعة صعوبة في تنفيذ الأفكار البنّاءة. لا يستطيع سايمون أن يقاوم رغبته في تذكير القرّاء بأنه نشر، مع الخبير في مكافحة الإرهاب دانيال بنجامين، قبل أكثر من 18 شهراً على هجوم 11 أيلول، مقالة في صحيفة «نيويورك تايمز» للتحذير من وقوع «اعتداء ضخم على يد المتطرفين السُنّة ضد الولايات المتحدة وسقوط عدد هائل من الضحايا». يعكس هذا التحذير المسبق فهماً عميقاً لمسار العمليات.
على صعيد آخر، يحمل تشديد سايمون على العلاقات الثنائية مع الحلفاء والخصوم أهمية كبرى لأنه يغفل عن عناصر أساسية. في حقبة تشهد تبدّل معالم وسائل الإعلام بفضل الابتكار الرقمي، وتوسّع سلاسل الإمدادات، واغتناء القطاع المالي، وتجدّد خصائص التكنولوجيا العسكرية، وتغيّر عالم التجسس والاستبداد بطريقة ثورية، وزيادة مظاهر اللامساواة، لا مفرّ من أن يتغير دور أقوى بلد في العالم وتتبدّل مصالحه. لكن لا يناقش سايمون أنواع القوى الاجتماعية والاقتصاديـــــــة والتكنولوجية التي رسمت معالم الحياة اليومية في الشرق الأوسط منذ وقتٍ طويل، بدءاً من اختراق الإنترنت ومعدّلات تعلّم القراءة والكتابة، وصولاً إلى النمو السكاني ونسبة بطالة الشباب. يصعب تبرير عدم التطرق إلى هذه المسائل لأن جزءاً كبيراً من أسباب التغيير يتعلّق بتقنيات تطوّرت في الولايات المتحدة أو على صلة بها.
كذلك، ينتقد سايمون المحللين الاستخباريين لأنهم يجيدون فضح نقاط ضعف الاقتراحات السياسية لكنهم لا يطرحون أي أفكار لتحسينها. يبدو كتابه محدوداً بالطريقة نفسها. هل يستطيع صانعو السياسة الأكثر ذكاءً وصدقاً وعمقاً طرح سياسات أفضل إذا كانوا مجرّدين من الغطرسة أو العوائق البيروقراطية السخيفة؟ يناقش سايمون المسارات التي يلجأ إليها صانعو السياسة وكانت لتُحقق نتائج أفضل في مراحل معينة من هذه المسيرة، لكن لا يمكن اعتبار المرونة التكتيكية شكلاً من البصيرة الاستراتيجية، ولا يطرح الكاتب أي رؤية عن استراتيجية أميركية أكثر فاعلية في هذه المنطقة.
لطالما حملت واشنطن نظرة سلبية عن الشرق الأوسط، فكانت تركّز على ما يجب منعه هناك بدل تحديد المسائل التي تستحق الدعم. هذا ما دفع صانعي السياسة إلى فعل كل ما يلزم لاحتواء النفوذ السوفياتي خلال الحرب الباردة واستعمال المناورات لدفع العراق وإيران إلى إعاقة بعضهما البعض عبر استراتيجية «الاحتواء المزدوج» التي طرحها كلينتون في حقبة ما بعد الحرب الباردة. خصصت إدارات أميركية متلاحقة موارد ضخمة لردع الدول المارقة، وكبح الإرهابيين، ومنع الانتشار النووي، والبحث عن أسلحة الدمار الشامل، والسيطرة على موجات تدفق اللاجئين، ورصد مخاطر هائلة في المنطقة وتجنّبها. لكنّ التدابير الوقائية ليست مرادفة للالتزام، بغض النظر عن كلفتها والوقت الذي تستهلكه. انهارت الجهود المتفرّقة التي كانت تهدف إلى إشراك شعوب المنطقة بسبب انتصارات انتخابية ومفاوضات أنتجت قادة لا يدعمون الخيارات السياسية التي تفضّلها الولايات المتحدة. هذه الانعكاسات المضطربة للطموحات السياسية المحلية (مثل انتخاب حركة «حماس» في غزة في العام 2007، أو وصول عضو من جماعة «الإخوان المسلمين» إلى سدّة الرئاسة في مصر في العام 2012، أو تشكيل حكومة يمينية إسرائيلية في العام 2022) تحوّلت سريعاً إلى مبررات لسياسات الوقاية والاحتواء.
بعيداً عن مبادرات جو بايدن الضعيفة لطرح خطاب فارغ اليوم عن «التعاون، والاستقرار، والأمن، والازدهار»، ما الذي تريد الولايات المتحدة تحقيقه في الشرق الأوسط؟ قرّر جورج بوش الإبن شنّ الحرب في العراق لترسيخ «الحرية». وتدخّل أوباما في ليبيا لضمان «حقوق الإنسان». أما ترامب، فقد أراد بكل بساطة أن يبرم بعض الصفقات المربحة في منطقة اعتبرها «مستنقعاً كبيراً». في هذه المرحلة، سيكون تخفيف مستوى التصريحات من الجانب الأميركي تغييراً مرحّباً به. حتى أنه قد يدفع صانعي السياسة الأميركية إلى سماع الأصوات المتصاعدة في المنطقة، لا سيما إذا اضطر الدبلوماسيون الأميركيون للخروج من سفاراتهم المحصّنة والسير وسط الشعوب التي كلّفتهم حكوماتهم بها. وراء المشاريع الضخمة التي تشيد بها تلك الحكومات والمعارض التجارية المتوهجة التي تعرض أحدث وأغلى تقنيات جديدة في مجال الأسلحة والأمن السيبراني، قد يلاحظ هؤلاء المشهد الحيوي في القطاع التكنولوجي الناشئ الذي يتخبّط لإيجاد مكانه في اقتصاد مصر غير الرسمي، فيستعملون النفوذ الأميركي لتفعيل إصلاح البيئة التنظيمية الخاصة بالشركات الصغيرة. أو قد يقرأون استطلاعات الرأي العام في ليبيا حيث ينسب الناس استمرار العنف إلى التدخل الأجنبي ويوصون واشنطن بتفعيل حظر توريد الأسلحة. حتى أنهم قد يلاحظون تدهور البنية التحتية للمرافق في لبنان ويشجعون على إطلاق جهود دولية لإعادة بناء شبكة الكهرباء، أو يقاومون نزعتهم إلى مقاربة جميع المسائل من منظور التهديدات الأمنية، فيكرّسون طاقتهم لرصد مساعي أي بلد يريد الحصول على تقنيات «ثنائية الاستخدام» وتحويلها إلى أسلحة ويعملون على كبحها. تسود أجواء كافية من الإحباط والاستياء في الشرق الأوسط.
ستبقى الولايات المتحدة عالقة في وهم المشاركة المخيّبة للآمال التي تقتصر على محاولة كبح مسار الآخرين إلى أن تُحدّد مصالحها الحقيقية في المنطقة، علماً أن هذه المقاربة بدأت تثبت فشلها تزامناً مع الانتصارات الدبلوماسية التي تحقّقها الصين في الفترة الأخيرة. ورغم تردّد واشنطن في التدخل، لن تتمكن من فك ارتباطها عن المنطقة بالكامل. سيؤدي الاكتفاء بالقضاء على قادة عسكريين محليين خلال ضربات عسكرية متقطعة إلى زيادة أجواء الاستياء والمرارة وسط الشعوب التي لا تجد بديلاً عن العنف لإسماع صوتها. انطلاقاً من هذا المنظور، قد يكون تقييم سايمون الأخير فرصة لتجديد الأمل: «بغض النظر عمّا يحمله المستقبل للأميركيين في منطقة الشرق الأوسط، لن تشبه الولايات المتحدة على الأرجح لا ماضيها ولا حاضرها».