احافير في الحب – 66 (إليهن عبرها والله)
كتب الدكتور سمير محمد ايوب
النشرة الدولية –
كعادتنا منذ سنوات، كنا رفقاء في رحلةٍ سيَّارةٍ مع الله في آفاقِ الأرض ، حين أكملنا جولتنا الصباحية منها، في غابات عجلون، جلسنا على حافة طريق نستريح. وهي تُناولني كوب الشاي الساخن، وشطيرة من فطائر الزعتر الأخضر المَبسوس بزيت عجلون، قالَت والفرحُ يتدفق من عينيها: ها أنا قد أتممت لك حكايتي، فعن ماذا ستحدثني اليوم يا شيخي؟!
قلتُ وأنا أغتسلُ بوميضِ عَينيها العسليّتين: سأحدثك عمن قبل أعوام باغتَتِ الموتَ، ونَسِيَتْ بعدَها أن تعود. تَوقَّفَتْ فجأةً عن المَسيرِ في دروب الحياة، وانْسحَبَتْ من أدوارها اليومية فيها. بلا تلويحٍ مَقصودٍ استدارت، وبعفوية وعلى عجلٍ مَضت في رحلة الإياب. من حينِها نَسيتُ أنا أن أكبُر. إستقرَّ الحُزن عليها في الروح، وعميقا وقُرَ في القلب، وكثيرا ما يتسرَّب عبر بوابات العينين غيوما ومطرا.
مؤخرا، باتت تنسى الموت وتعود كثيرا من تحت التراب، تُطِلُّ كالملائكة بكامل أناقتها، بزيها البسيط، فستانٌ فلاّحيٌّ ناصع البياض، مطرز الصدر والحواف، وزمَّاتٍ مُلوَّنَةٍ تستر الذراعين وتقيهما لفحَ الشمس، وحزامُ حريرٍ دِمَشقيٍّ مُوشَّى بأطيافِ الحمرة، يحتضن خصرها برزانة ، وغطاء رأسٍ من اليانِس او الجُورجيت الأبيض، يُتوِّج هامتَها ويُظهرُ وقارَ شَيبِها، تماما كما يفعل الثلج بهامات جبل الشيخ ، وسروال من السُّرَّطْلي اللامع بألوان قوس قزح.
إعتادت خيرية أن تعود كلما شاغَبَتنا الحياة، أو تَعثَّرنا بِحصاها، تَحضُنُنا كزُغبِ القَطا، فنحن نقطة ضعفها ومبعث قوتها ومنبع فرحها، تُجالِسنا حتى نستعيد فرحنا، وتشد أزرنا حتى نُرمم قوَّتنا ونَزْدَدْ. بات تكرار هذه الزيارات عكّازةَ حُبٍّ، نتوكأ عليها وكأنها تعويض ربّانيٌّ عن رحيلها الذي لم نعتد عليه بعد، ولَنْ.
حبنا لها كان وما زال، ممزوجاً بالرهبة رغم طباعها الأليفة. كنا لا نرى لها دمعا، فقد كانت تحرص إنْ أنهكها وجعٌ مُبْكٍ، على أن تُبْقِيَ دمعها مما تسمعه الأذن وهو يتساقط بصمت في حلقها، لا مما تراه العين. فتعلمنا على أن لا نبك لأي سبب في حضرتها، مهما هزمتنا الحياة، فهي مفرطة الحساسية في التقاط كل ما يوجعنا او يحزننا، تماما كحساسيتها في التقاط كل ما كان يفرحنا.
منذ أيام طال ليلي، تقلبتُ كثيرا في فراشي وتحسَّسْته ، وأنا أتابع ظلَّها في معارج نومٍ قلق، سمعت في ثناياه طَرْقَ يدِ، تُلحُّ كي أشرع بواباتي ونوافذي وعتباتي، قفزتُ من دفء الفراش ملهوفا، فرِحا نفضتُ عن جسدي غبار النوم، سمعتُ حفيفَ ظلِّها، شممتُ عبقَها، وسمعتُ وشوشَتَها، ولكني لم أجد لها ظلاًّ ولا أثرا.
فعزمتُ أنْ أتوكأ عصا الشوق، ومع تسلل باقات من النور والنسائم، عرَجْت إليها. اعترتني سكينةٌ جميلةٌ وقدَماي تُسابق لهفتي بالوصول إليها، تقوداني رغم زهايمر تحاول عبثا طلائعه محو بعض تضاريس الأشياء وحدودها، فوق طريق طويل إلى ضواحي مقبرة الهاشمية، على حواف مدينة الزرقاء، وافيتها إلى ما سبق وأن فرَّتْ إليه ، مستقرها المؤقت هناك.
ما ان سجلت حضوريَ بالسلام عليها وعلى كل من سبقونا إليه، إحتضنتُ شاهد القبر وتأمَّلتُ ما دُوِّنَ عليه من تفاصيل، ذكَّرَتني بأن أمي قد عاشت خمسا وثمانين عاما، ما بين ميلادها عام 1910 ورحيلها في 25/9/1995 ، فساحت دموعي وانا اسمعها تسألني عن حالي، فقد تذكرت سؤالها يوم رحيلها، هاهي تكرّره. وأنا أستعيد آخر لقاء بيننا في غرفة الغُسْلِ في مستشفى الحاووز الحكومي في مدينة الزرقاء.
للحوار بقية …..