دار محفوظات للذكريات
محطات حياتنا أصبحت عبارة عن فيلم قصير مسترسل، يتراءى أمامنا على الشاشات. وبإمكاننا مشاهدته في كل زمان ومكان، ودون زيادة أو نقصان.
النشرة الدولية –
العرب –
يمتلك كثيرون منا قدرات ملفتة على نسيان المحن والمصائب، التي يمرون بها في حياتهم، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، وتمكنهم هذه النعمة من التكيّف مع مختلف المواقف الصعبة، ما يساعدهم على إعادة التوازن إلى حياتهم، وقد يعكس ذلك مرونة هائلة على تجاوز الصدمات ونسيانها بسهولة.
يمينة حمدي
نعلم جيدا كم هو صعب أن يفرغ معظم الناس عقولهم من شيء مؤلم حدث لهم، خصوصا محنة الموت. فلدى عقول البشر ميل أكبر للتفكير في الأشياء السلبية واجترار الأحداث المأساوية أكثر من الأحداث السعيدة.
لنتخيل ما يمكن أن يحدث لو لم نكن قادرين على النسيان، حتما ستصل المشاعر السلبية إلى مستويات يصعب السيطرة عليها، وفي معظم الأحيان يشكل ذلك تهديدا خطيرا على الصحة النفسية والجسدية، فمن الممكن أن يتضخم الشعور بالتعاسة والحزن، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة، واضطراب الوسواس القهري، وحتى بعض الاختلالات العقلية الحادة.
حاجة البشر إلى النسيان، ليست مرتبطة فقط بأسباب نفسية وفيزيولوجية، بل أيضا بعوامل طبيعية وثقافية وزمنية، فنحن في حاجة إلى إعادة صياغة علاقتنا بالماضي والحاضر والمستقبل، ومع مصائب الدهر، وبيننا وبين الآخر القريب والغريب، والعدو والحبيب، وهذه أكبر تعزية للنفس، ليس من المتوقع الحصول عليها من الناس، بل من النسيان الذي يعلمنا التصالح مع الواقع مهما كان صعبا وقاسيا.
لولا قدرتنا على النسيان، وكبح جماح الذكريات الحزينة، لما كانت هناك بدايات جديدة أو تفكير في المستقبل. هذه العملية الذهنية للنسيان، وتحييد الصدمات ميزة عظيمة، لأن الذكريات السلبية إذا بقيت راسخة كشريط الفيديو، فسيظل الحزن طاغيا على حياتنا ويقود عقولنا باتجاه ثقب أسود.
لكن حكمة مثل “الإنسان أخو النسيان” تنطوي على مبالغة على الأرجح حتى في الفترة التي صيغت فيها، ولاسيما بالنسبة للأشخاص الذين لديهم ذاكرة لا تنسى أبدا، تجعلهم يعيشون الأحداث والتجارب الماضية بكل تفاصيلها، بغض النظر عن عدد السنوات التي مرت عليها.
لعل الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه محق في قوله “لم يتم إثبات وجود النسيان أبدا: فنحن نعلم فقط أن بعض الأشياء لا تخطر ببالنا عندما نريدها”.
شخصيا، أعتقد أنه ليس هناك وقت أفضل من الوقت الراهن لإعادة صياغة مفهوم النسيان، بعد أن أصبحت حياة الناس عبارة عن مجموعة ضخمة من شرائط الفيديو والصور الملونة للفرح والحزن والولادة والموت، ومشاهد وأفكار تطاردنا في كل زمن وحين، وكلما كانت هواتفنا بين راحة أيدينا، وقبل زمن الإرث الإلكتروني، لم تكن مثل هذه الذكريات حاضرة بقوة في حياتنا.
الطريقة التي نستحضر بها ذكرياتنا في القرن الحادي والعشرين غريبة نوعا ما، لقد أنشأنا ما يشبه دار المحفوظات للذكريات والمعلومات والأحداث بمختلف أنواعها، تمكننا من استرجاع كل شيء وكرواية متماسكة، والاطلاع على سجلات الأحداث المفرحة والمحزنة، وتفاصيل كل مكان زرناه ونشاط مارسناه، حتى لو كان مجرد احتساء للقهوة أو ركوب للحافلة.
محطات حياتنا أصبحت عبارة عن فيلم قصير مسترسل، يتراءى أمامنا على الشاشات. وبإمكاننا مشاهدته في كل زمان ومكان، ودون زيادة أو نقصان.
الجانب المشرق في الأمر، أن المصابين بمتلازمة “ضعف الذاكرة الذاتية”، أصبح في مقدورهم أيضا الاحتفاظ بذكرياتهم، واستذكار تفاصيل حياتهم وكل ما قاموا به من أنشطة، ونوع الملابس التي ارتدوها، وأين كانوا في تلك الأوقات. بإمكانهم أيضا إدراك أن من حولهم لا يفبركون قصصا كاذبة أو يختلقون ذكريات وهمية لا تمت لحياتهم بصلة.
غالبا ما يقال إن “الحاجة أم الاختراع”، وقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة في توفير نوع من الكاميرات يلتقط صورا بشكل تلقائي وفي كل 30 ثانية، لمساعدة المصابين بالخرف في تذكر الأحداث اليومية، إلا أن الكثيرين يستخدمونها اليوم لتسجيل لحظات حياتهم وأنشطتهم اليومية، إنها أشبه بـ”محرك بحث عن الذات” يجعل حياتهم لا تذهب طي النسيان.