عرس البيادر
النشرة الدولية – يوسف طراد –
كانت أفعال أجدادنا قُبَل السماء على الأرض، هم من امتزجت أرواحهم بروح هذه الأرض الطيّبة، وجُبل عرق جباههم مع ترابها المقدّس. فكانت حضارتهم تؤدّي إلى الأمان الروحيّ والغذائيّ، ولم يكن يحرّكهم سوى الخوف من العوَز. فلم يكن هناك اهراءات مهدّمة، ولا طوابير ذل أمام الأفران، بل عرس بهيٌّ على دروب بيادر الخير.
أيام البركة، كانت الدّابّة تنتظر رفيقات لها، في فسحات صغيرة على جانب الطريق الترابيّة الضيّقة المؤدية إلى عرس البيادر، وذلك لتسهيل المرور. فقد أنزل الفلّاح حمل سنابل القمح عن كاهلها على (علوة) بيدره. وما أدراك ما هو حمل الدّابّة من هذه السنابل الذهبيّة بعد الحصاد! (قواقيل) جُمعت بجهد الحصّادين، ورُبطت بأغصان الوزّال الخضراء اليانعة المجدولة، ففاقت استدارة كلّ واحدة منها عرض جسم الدابّة. فقد كان الحمل مؤلّفًا من ثلاث (قواقيل) كبيرة، توضع اثنتان منها كلّ واحدة على ميلة من جَلِّ الدّابّة، ويسندها الفلّاحون أصحاب الحقول المتجاورة -من هنا المثل القائل: “سندْلي تا حمّلك”- وتوضع الثالثة فوق رفيقتيها لمرافقتهما بالرحلة من الحقل إلى البيدر، ويُحزم الحمل بحبل ليف بواسطة عقدة تُدعى (الناشوطة)، وذلك بعد تمرير الحبل فوق القواقيل من الأعلى، ومن تحت (الحياصة) من الأسفل على بطن الدّابّة، منعًا لجرحها من جراء احتكاك الحبل بالجلد. فيصبح حجم الحمل ضعفي حجم الدّابّة. لذا وُجب الحرص على المكاري المولج بالنقل خلال نقل السنابل، وبخاصّة على الطرقات الضيقة، كي لا يقع الحمل أرضًا، لأنّه لا يستطيع جعل الحمل متوازنًا بين ضفتيه، في أغلب الأحيان.
تصبح (القواقيل) أكداسًا مكدّسة عند الانتهاء من نقلها إلى (علوة) البيدر، فيحررها الفلّاح من قيدها، ويفلش سنابلها على البيدر بشكل دائري بعد تجهيزه، وبخاصّة إذا كان حديث البناء. فالبيدر الحديث يكون نصفه جلًّا يعلوه جلٌ آخر لاستعماله ك(علوة) ونصفه فراغ، وقد امتلأ فضاء هذا الفراغ بحائط دائريّ، رُفعت مداميكه بواسطة حجارة كبيرة الحجم، ووُضع الرجم خلفه، وفُلش التراب فوق الحجارة، وحُدل جيدًا بمحدلة حجريّة ضخمة بعد رشّ الماء عليه، وكان يضاف التبن الناعم فوق الماء قبل الحدل إذا كان التراب أحمر، لمنع التصاقه بالمحدلة. فيصبح سطح البيدر بعد جفافه كصبّة الباطون، وبذلك لا إمكانية لاختلاط حبوب القمح بالتراب.
لا صوتَ يشبه صوت أنين السنابل التي كانت تُطحن تحت النورج، هذا النورج ذو الثقوب العديدة في مقلبه، المملوءة بالحجارة الصوانيّة، وقد بانت عند رفعه كأضراس وأنياب، حمل داروسًا منتصبًا يلتقط لجام (الفدّان)، مرندحًا المواويل.
يتعب الداروس من الغناء لكن الثورين لا يتعبان، ومن يأبه لتعبهما؟ فقد كانت استراحتهما القصيرة عندما يصاب الداروس بالدوخة ،ويعزم على تغيير المسار بعكس عقارب الساعة، أو عندما يتلقّى روثهما بواسطة قحف صغير، لإبعاده عن حبوب القمح الذهبيّة الّتي تنتظر مصيرًا من اثنين، إمّا الطحن من أجل صنع الرغيف، أو الزراعة مجددًا ليثمر “بعضه مئة ضعفٍ، وبعضُه ستّين، وبعضُه ثلاثين” (متّى ١٣: ٨)، وفي الحالتين تموت حبّة القمح من أجل الحياة.
في بهجة الأولاد عبق القمح ورائحة التبن. أولادٌ ومشاحناتٌ على دور ركوبٍ على نورجٍ، وهم عالمون حق العلم أن الجدّ يحفظ الدور غيبًا. وتنعم الطرحة، من كثرة الدوران ووزن الركّاب فوق النورج، فيقلبها الداروس بالعترينة التي هي شبيهة المذراة لكنّها بإصبعين أو ثلاث بدل خمس أصابع. ففي أسفل الطرحة لا تزال السنابل كما هي، وعندما تُقلب، تصبح بالمواجهة مجددًا مع أضراس النورج الّتي لا ترحم. وهكذا دواليك إلى أن يصبح بحر السنابل متجانسًا بالنعوميّة، فلم تعد العترينة صالحة لتقليب الخليط الذي يكاد يصبح تبنًا وحبوبًا. فتفعل المذراة فعل السحر خلطًا ومهمدة، قبل الدوران الأخير، وتجميعًا بانتظار المساء.
ويأتي المساء، حاملًا معه نسيم الشرق. فهذا هو الوقت المثالي لفصل التبن عن القمح. تبدأ سهرة الفلاح مع مذراته، وهما ينتظران بدر آب الّذي يضفي سحرًا ورونقًا في سماء البيادر الصافية، معلنًا بدء العمل. فتصبح المذراة خليلة الفلّاح لا تفارق يديه كأنّ لهما روحًا واحدة، يحرّكها الشوق إلى الرغيف الثمين. يرتفع خليط التبن والقمح بخط شبه عموديّ، فتسقط الحبوب من خلال أصابع المذراة أمام الفلّاح، ويحمل النسيم التبن خفيف الوزن إلى مسافة كافية مبتعدًا عن الحبوب.
يُجمع التبن (بالخيشات) الكبيرة، وتمتلىء الأعدال -التي رُسم على وسطها حيزٌ أحمر بعرض أربع أصابع- بالحبوب. وينتظر الفلّاح الصّباح بفارغ الصبر، كي يلتقط بقايا حبوب سابقه عليها النمل النشيط ليلًا، فالنمل لا ينام خلافًا لصرّار “لافونتين” الّذي ينام في النهار، ويغنّي في الليل مع الزيزان.
لم ينتهِ العمل، فأعدال (الميل الأحمر) تحوي بعض الزؤان الضائع بين القمح بالإضافة إلى الشيلم الأسود وبعض القرصينة التي سقطت مع الحبوب في أثناء عملية التذرية. فيأتي عمل الغربال لفصل القمح عن شوائبه، ويهتزّ في صحن الدار، وتهتزّ معه صدور تحت أعناق مترنّحة، وتخفق قلوب عشّاق متمنيّة أن تكون الغلّة وفيرة كي تطول غربلتها.
يتسابق الفلّاحون بأعدالهم المملوءة بالخير إلى مطحنة القرية المجاورة الّتي تعمل على الماء، صاحبها بوشينا الطحان، خبيرٌ بدوران الأحجار وأخبار الناس. يندفع الماء من فتحة في سقف المطحنة إلى أسفل ليدير حجرًا فوق حجرٍ.
فيطلّ الدقيق الأبيض من كوّارة الطحين، مستعدًا لملاقاة نار عرس الرغيف تحت صاجٍ أو في فرنٍ أو داخل تنّورٍ. ويضحك الفلّاح في سره لأن الطحين أساس المؤنة، فالخبز هو طبقه الدائم، فقد ورد في هذا السياق في الصفحة ٨٥ من كتاب “القرية الّلبنانية حضارة في طريق الزوال” للدكتور أنيس فريحة: “الخبز مادّة الطعام الأوليّة. ما يطبخ -ويسمّى دامة- هو للتغميس لا لملء المعدة. تُملأ المعدة بالخبز، والدامة للنكهة والطعم والاستساغة”.
معجم المفردات:
– علوة: جل يعلو البيدر بقليل توضع عليه (القواقيل)
– الحياصة: قشاط عريض من الجلد أو القماش السميك، يتّصل بطرفي الخرج من الأسفل.
– القواقيل: جمع قاقولة، وهي ضمّة كبيرة من سنابل القمح
– خيشات: عدال كبيرة الحجم مخصصة لتعبئة التبن
– الميل الأحمر: عدل كبير رُسم وسطه حيّز أحمر يسع خمسين كيلوغرامًا من الحبوب. أمّا الميل الأزرق فيسع مئة كيلوغرام.