لعبة “البيسبول الدستوري”… عودة القياصرة والأباطرة والشاهات
بقلم: رفيق خوري
ما حدث في نهاية القرن العشرين هو العودة إلى القرن التاسع عشر بأكثر من دخول القرن الحادي والعشرين
النشرة الدولية –
ليس صدفة أن تصبح الديماغوجيا جزءاً من الأيديولوجيا. ومتى؟ بعد عقدين على نظرية النهايات، نهاية التاريخ، نهاية الأيديولوجيا، نهاية الجغرافيا، وبدايات العولمة وكل ما رافق وتلا انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي. فما حدث في نهاية القرن العشرين هو العودة إلى القرن التاسع عشر بأكثر من دخول القرن الحادي والعشرين. انحسار الموجة الديمقراطية بعد مد سريع. العسكرة والتسلح قبل التنمية. والانجذاب نحو “الحاكم القوي” الذي يختصر الدولة والسلطة بشخصه، ويوحي بالقدرة على حل الأزمات ومواجهة التحديات بأسرع من البطء الديمقراطي في اتخاذ القرار. والرمز البارز لذلك هو تعاظم سلطات الحاكم، ولو في نظام ديمقراطي أو أقله في نظام يشهد انتخابات دورية. وهي انتخابات يتم فيها تجديد ولايات الرئيس من دون قيود. فكلما اقتربت الولاية الثانية للرئيس من الانتهاء، يصار إلى تعديل الدستور الذي يحدد ولايتين للرئيس، بحيث يعاد انتخابه إلى ما لا نهاية.
أحدث نموذج أمامنا هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. فالانتخابات الأخيرة أعادت تأكيد رأي الصحافي المعارض طه أقيول القائل إن “الشخصية التركية لا تزال تميل إلى عبادة الرجل القوي، وهو ما عمل أردوغان وزملاؤه على تعزيزه لدى الرأي العام”. وأردوغان الذي نجح منذ عام 2002 باستخدام سلاح القومية والشعبوية يتصرف كأنه “سلطان” عثماني. هو قال إن “الديمقراطية مثل قطار تنزل منه عندما تصل إلى محطتك”. وفي كتاب “ما هي الشعبوية” يعيد جون وورنر موللر التذكير بقول أردوغان عام 2014، “نحن الشعب”، ثم سأل معارضيه “من أنتم؟”. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلعب دور”القيصر”. تعلم قول ستالين “الروس شعب قيصري يبحث دائماً عن قيصر ليعبده ويعمل له”. ومارس ذلك داخل الكرملين وفي العلاقات مع العالم.
الرئيس الصيني شي جينبينغ “إمبراطور”. ولم يكتم حليفه وانغ كيشان القول لأصدقائه إن “العلاقة بين شي وكبار المسؤولين هي بين إمبراطور ووزرائه”. ففي الألفية الأولى كانت الصين في موقع أميركا اليوم، قوة عسكرية واقتصادية ودولة حضارية يحكمها إمبراطور. وهي اليوم الاقتصاد الثاني في العالم بعد الاقتصاد الأميركي وقبل الياباني. وشي جدد تركز السلطة في الحزب الشيوعي الذي “يحكم البندقية” بعد أن كان ماو تسي تونغ يقول “إن السلطة تنبع من فوهة البندقية”، وجعل سلطة الحزب في المكتب السياسي وسلطة المكتب السياسي في شخصه، صار في الأدبيات الحزبية “ربان السفينة العظيم” اللقب الذي حمله ماو. والرأس في ما تسمى”الهرمية المخنوقة” هو إمبراطور كامل الأوصاف.
المرشد الأعلى الولي الفقيه في إيران علي خامنئي يمارس “الحكم الالهي” بالوكالة. سلطات أكبر من سلطة “الشاه” الذي أطاحته الثورة الإسلامية. حتى جلوس المسؤولين في حضرته، فإنه جلوس تحت مستوى كرسيه الذي هو أعلى من “عرش الطاووس” أيام الشاه. لا رد ولا مراجعة لقراره، بحيث يستطيع أن يبطل انتخاب رئيس الجمهورية ولو نال تسعين في المئة من الأصوات الشعبية. و”الشرعية الشعبية” في الجمهورية الإسلامية هي مجرد ديكور في مشهد “الشرعية الإلهية”. مؤسس إسرائيل ورئيس وزرائها ديفيد بن غوريون كان يراه أنصاره “ملك إسرائيل”. وأنصار نتنياهو يسمونه “ملك إسرائيل”. كذلك فعل أنصار شارون. فإسرائيل ولدت وعاشت على خرافة اسمها “الأرض الموعودة” واختراع تاريخ لملوك إسرائيل.
حتى في أميركا، فإن الرئيس هو “ملك منتخب” تزداد سلطاته مع الوقت على عكس ما أراده “الآباء المؤسسون”. ولولا أدوات “الضبط والتوازن” عبر الكونغرس والقضاء، لتصرف كل رئيس أميركي كإمبراطور. الرئيس دونالد ترمب كان يحلم بأن يحكم مثل بوتين وأردوغان وشي وخامنئي. ويروي جون بولتون مستشاره للأمن القومي في مذكراته تحت عنوان “الغرفة” أن ترمب قال له، “الصحافيون حثالة يجب إعدامهم”. وفي رأيه، فإن ترمب “خطر على الجمهورية، وإذا ربح ولاية ثانية، فإن من الوهم ضبطه وسيصبح تهديداً أكبر. وماذا عن هتلر وفرانكو وسالازار وسوموزا وأوربان ودودا، وعديد من الرؤساء الآخرين الذين يحكمون مدى الحياة؟ ماذا نسمي ظاهرة القذافي الذي كان حاكماً مطلقاً من دون لقب رسمي سوى “الأخ العقيد”؟
في كتاب “كيف تموت الديمقراطيات” يقول البروفيسوران في هارفرد ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات “إن الحكم في اللعبة الديمقراطية ينحاز إلى الحكومة ويزود الحاكم بدرع ضد التحديات الدستورية وبسلاح قوي للانقضاض على خصومه”. وهذه لعبة السلطوية ضمن قواعد “البيسبول الدستوري”.