زواج الملوك.. في سيمفونية الأردن
بقلم: عبدالله بشارة
النشرة الدولية –
القبس –
كانت المشاهد، التي تابعناها في زواج الأمير الحسين بن عبدالله، ولي عهد الأردن، رسالة لامعة عمّا يملكه الأردن من إمكانات تنطق بتنوُّع الخزائن التي لديه، خرجت من قيادة متطورة فكرياً، تصر على الإتقان، وتلتزم قيم الجدارة، وتسعى إلى التفوق، تخرج من دقة الانضباط التي تفوّق فيها جيش الأردن، وفرقه المختلفة، بما فيها تجمع الزغاريد والأغاني، كان فيها الملك عبدالله والملكة رانيا منبع الإيحاء وعين المراقب لتأمين الجودة في الإتقان.
وعلى الرغم من الالتزام الجماعي بقيود الحفل، فإننا كنا نرى الأمير الحسين، وهو المعرس، مأخوذاً بفرحة الاقتران ومحاطاً بأعضاء الكتيبة العسكرية، مندمجاً بروح التآخي والألفة، مع انشراح تكشفه الابتسامات الصافية، بينما تلح الملكة رانيا على الكمال في كل التفاصيل، فتطمئن على انسياب التسلسل، مؤشرة إلى فرقة النساء بالرضا والبهجة، وتفرح مع المدعوين رجالاً ونساء، ومن مختلف الصفوف، متابعة تطورات زفة العروس التي أصبحت كما تقول الملكة واحدة من بناتها.
ومع الملك، الذي طوق مشاعر الفرحة بهيبة المقام، مبتسماً بكبرياء، ومتحدثاً بحرارة اللقاء مع مئات من المدعوين والمدعوات، الذين حضروا للمشاركة تعبيراً عن احترام للملك والملكة، وتقديراً للأردن، المستوعب لأحكام الانفتاح والمرحب بمستجدات الزمن.
كنت جالساً في مكتبي أتابع متفحصاً خطوات فرقة الجيش الأردني الموسيقية، وكأني أتابع الفرقة الموسيقية للجيش البريطاني، في إتقان الأداء، وفي نغمات التعبير عن السعادة عبر آلات موسيقية اعتاد عليها الجيش الأردني، وتفوق في فنونها، وفوق تلك الطلة الوطنية التي رسمتها المناسبة على سلوك العسكريين، كان الحس الأردني الوطني عالياً، أبرزه رجال الجيش ورفاق المعرس، معبّراً عن عشق الوطن، وقانعاً بما يوفره في حياتهم، متدفقاً في حرصه على الحفاظ على سلامة الأردن وصون سيادته.
ومع الاستمتاع بالمحتوى النادر الذي خرج من ذلك العرس الفريد، تذكرت فصولاً مرّ بها الأردن، عبر حياته في تباعدات عربية كان فيها مشغولاً بصد التطاولات وإفشال المخططات.
كنا نتابع قبل سنوات أحوال الأردن بقلق، طواها الملك عبدالله بحسه المتفاني لحماية الوطن وصون استقلاله وتأمين تقدمه بين الأمم وتعبئة طاقاته البشرية، مع إدراك بأن الخليج نصير له ولشعبه، مع تصميم الملك عبدالله على التعالي على المناكفات التي تصنعها حروب العرب الباردة، والانطلاق بالأردن وفق إملاءات العقل، وضبط النهج السياسي بمتابعة صوت المصالح وجودة الحصاد، ولا شك بأن حفلة الزواج وأجواء المرح التي تتسيد الأردن وما وفره الملك في سلوكياته الواقعية، عززت الإيمان بمستقبل الأردن، الوطن القادر على هضم السلبيات والتمسك بفلسفة النظام المنفتح المستوعب للتبدلات، المتابع للمستجدات، والمرافق للأولويات في هذا الكون، التي ترسمها هيئات عالمية متخصصة اقتصادياً، وبتوقعات سياسية عن تقلبات العالم، وإصرار على أن تكون للتنمية الوطنية الأولوية العاجلة، فأعظم إنجازات الملك عبدالله، في رأيي، إغلاق المنافذ التي يخرج منها سوء التفاهم، ولم يكتفِ فقط بهذا الإجراء، بل يحرص على المتابعة من خلال جولاته المستمرة عربياً وعالمياً، جنوباً وشمالاً وغرباً وشرقاً، ترافقه دائماً طموحات الأردن التي يسعى إلى تحقيقها مهما كانت التعقيدات.
كنت من الذين يترددون على عمّان العاصمة، ذات المناخ الناعم، والتي تتكاثر فيها الصالونات السياسية الأردنية، ويتردد عليها رؤساء حكومات سابقون ووزراء وأصحاب الرأي والجدل من أهل الخبرة والتجربة، أستمع فيها إلى المهضوم وإلى المزعج، من المجتهد ومن أصحاب الوسط، وتتسلل إليها أحياناً أنواع من خيوط العتاب موجهة نحو دول الخليج، فالأردن قريب منها، ويملك تخصصات تبحث عنها هذه الدول، فيتطلع إلى مشاركة ليس وفق النمط المعتاد، وإنما معزز بعاطفة أخوية خاصة.
وفي هذا الإطار، يظل الكويتيون أكثر اختلاطاً بالأردن، وأكبر الأعداد من سيّاحه، وأكثر المستثمرين فيه، وأحرص على الاستمرار في التواصل، وكانت الكويت أرحب بلد فيه جالية أردنية، وأكثر الخليجيين التحاقاً بجامعاته.
ومن خلال متابعة مراسم زفاف ولي العهد، يتوقف المشاهد عند مظاهر الحميمية التي تربط الملك عبدالله وعائلته بالشعب الأردني، فالأفراح لم تنحصر في قصور الملك، وإنما تسيَّدت فضاء الأردن، وطغت الفرحة العارمة على انشغالات الشعب، وسيطرت على أولوياته، وأضافت قوة في وحدة الشعب، وعمقت الترابط بين أبنائه.
ولا شك بأن من يقرأ أسماء الضيوف، الذين شاركوا في الحفل، سيقف على المكانة التي يتمتع بها الأردن بقيادة الملك عبدالله في سلاسة العلاقات الأردنية مع مختلف شعوب الأسرة العالمية، فيتوصل إلى حقيقة لا يمكن الشك فيها بأن الأسرة الهاشمية أسست دولة عصرية حية يستهويها التطور وتنتعش بالتجديد، وتعمل على استيعاب تعقيدات العصر، ومزاجها التعرّف على إبداعات العالم، ومن الواضح أن هذه أمنيات التزم الملك عبدالله ملاحقتها.
ومع ذلك، لا مفر من قراءة تاريخ الأردن وظروف ولادة المملكة الأردنية الهاشمية، فقد خرجت إمارة شرق الأردن – كما كانت تسمى سابقاً – من وضع عربي مرتبك مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تسيَّدته مشاعر الحيرة والسخط على كل من بريطانيا وفرنسا، بعد تلاشي الآمال العربية في جدية التزام المنتصرين في لندن تنفيذ الوعود المثيرة، التي قدمت للشريف حسين مقابل انضمام مملكته لمناصرة الحلفاء ضد الدولة العثمانية، وخاصة بعد فقدان الملك فيصل حكم سوريا بتهاون بريطاني – فرنسي، ومن هذه الوقائع عاش الأردن في مناخ عربي طغى عليه الإعياء والصدمة. وتواصل هذا الإعياء مع حرب فلسطين عام 1948، واستمرت حياة الأردن تتعايش مع هزيمة وتشتت عربي، لعب الدور البارز في صياغة تاريخ الأردن حتى عام 1967، مع الهزيمة العربية الكبرى، التي فقد فيها الأردن الضفة الغربية في فلسطين، وتعاظمت مشاكله مع ندرة المقومات الاقتصادية التي غابت عن تربته.
والواقع أن قيادة الأردن تعاملت مع حصيلة الهزيمة بواقعية وبانفتاح أكبر على المحيط العالمي، الذي تعاطف مع الأردن، مع سعي عالمي جماعي للتخفيف من قسوة مخلفات الهزيمة.
ومع ذلك، ظل الأردن متطلعاً إلى شراكة عربية تخفف من جروحه، تزامنت مع صعود الدولة الخليجية التي تملك سلعة نادرة ذات حساسية خاصة في الأمن العالمي، توطدت روابطها مع الأردن، وأدارها الملك عبدالله بكياسة ومهارة.
وإنصافاً للأردن، الذي ولد في حضن عربي مقهور، وظل حالماً حتى الأمس القريب، متابعاً بروز الدولة الخليجية من شرعية تاريخية تسيَّدها التفاهم بين السكان والقيادة، تولدت منها مع مرور الزمن مبايعات تعمق الثقة بين السكان وأهل الحل والربط، خرجت منها هوية الدول الخليجية بانتماء واعتزاز بالأرض والدفاع عنها بعناد وبقوة.
لم نتعرف نحن في الخليج على الإعياء العربي، الذي استوطن الأردن منذ نشأته حتى الستينيات من القرن الماضي، حين بدأ مسار الأردن يعزز الدولة الوطنية الأردنية، ويسعى لانطلاقها، بتوجيهات عامة، كان التركيز فيها على بناء دولة الأردن.
لا أنكر أن فقرات الزواج الملوكي، التي تابعناها، أخذتني لاستحضار شيء من ظروف الأردن وتطورات حياته وتموجاته مع الخليج، ولا سيما في هذه الظروف التي تتكاثف فيها جهود القيادة الأردنية لتحقيق مشاريع تنموية تعمق الهوية الأردنية، وتتميز باعتزاز الوطن الأردني.
كان الزواج أبهةً في الإتقان والانضباط، ملوكياً في الحضور، إنسانياً في التفاعل، مبهجاً في المشاركة، وروعةً في الأداء، وأصدق التهاني للملك والملكة بزواج ولي العهد ودوام العز للأردن المنفتح والملاحق لكل جديد ومفيد.