انقلاب على البرلمانية في انتخابات الرئاسة اللبنانية
بقلم: طوني فرنسيس

لا يمكن لحزب محلي مسلح خوض اللعبة الديمقراطية وهو يتبع لـ"قيادة عظيمة" في الخارج

النشرة الدولية –

يعود الاستعصاء الحاصل في انتخاب رئيس جديد للجمهورية إلى رفض أغلبية ساحقة من أعضاء المجلس النيابي اللبناني السير في خيارات “حزب الله” الرئاسية ورفضها أن يضع هذا الحزب الذي تقوده إيران يده على المواقع الرئيسة في هرم السلطة .

هذا الرفض بدا صريحاً في نتائج التصويت خلال الدورة الـ12 من انعقاد المجلس لانتخاب الرئيس، فبنتيجة التصويت نال المرشح الذي يدعمه الحزب 51 صوتاً ونال منافسه الذي يدعمه معارضوه 59 صوتاً، وصوّت 18 نائباً لأسماء وشعارات مغايرة لكنهم في المعنى المفيد لموقفهم لم يدعموا حزب الله في معركته.

فهم الحزب المذكور وحليفه رئيس المجلس النيابي الذي يرأس التنظيم الشيعي الثاني “حركة أمل” الرسالة، فسارعا إلى سحب نوابهم من الجلسة لإفقادها نصابها القانوني خوفاً من دورة اقتراع ثانية ستأتي على الأرجح بمنافس مرشحهما.

كانت جلسات المجلس النيابي متوقفة منذ شهور مع أن المهمة الدستورية له هي في عقد جلسات دائمة لانتخاب الرئيس ومنع حصول فراغ في منصب الدولة الأول. لكن تجربة إفراغ المناصب الرئيسة التي تتكرر للمرة الثالثة على مستوى رئاسة الجمهورية باتت في صلب سياسة الثنائي “الشيعي” منذ اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري أواخر عهد الرئيس إميل لحود ضمن مخطط واضح المعالم، يعتبر كثير من اللبنانيين أن هدفه الاستيلاء على الجمهورية.

انتهى عهد لحود إلى فراغ طال شهوراً، ولم يتم تعيين العماد ميشال سليمان رئيساً إلا بعد اجتياح الميليشيات الحزبية لبيروت ومناطق أخرى. كان اتفاق الدوحة في ختام ذلك الاجتياح تكريساً لعملية قضم على مستوى تركيب السلطة التنفيذية خارج ما ينص عليه الدستور، وسينتظر حزب الله ست سنوات أخرى قبل أن ينتقل من القضم الحكومي إلى ابتلاع الرئاسة.

في عام 2014 سمّى مرشحه وعطل مجلس النواب عامين ونصف العام قبل “اقتناع” المعارضين بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للدولة، وعندما حل عون في المنصب تحوّل غطاء لحزب تديره إيران كأحد أدوات تنفيذ مشاريعها التوسعية الإقليمية. صار يقاتل في سوريا والعراق واليمن، ويدافع عن سياسة إيران العدوانية تجاهها من دون أي اعتبار لمؤسسات الدولة التي “يقيم” فيها أو لمصالح شعبها ومصائره الاقتصادية والأمنية. ونجاحه في الإتيان برئيس موالٍ له، كان مقدمة لجعل السلطة “الشرعية” غطاءً ورديفاً سياسياً في احتضان مغامراته “الايرانية” على امتداد الإقليم، مما أدى إلى تدهور مريع في علاقات لبنان العربية والدولية وأسهم بالتالي في الانهيار اللبناني السريع المستمر منذ أربع سنوات.

استساغ “حزب الله” وشركاؤه لعبة فرض ممثلي الشعب اللبناني بالترغيب والترهيب، وكما هو واضح، هو ليس في وارد التخلي عن “مكاسب” حققها في المواقع الرسمية الرئيسة، والمعركة التي يخوضها اليوم من أجل ترئيس من “يحمي له ظهره”، أي من يواكب ويسهّل قضمه للسلطة، هي استمرار لاجتياحه بيروت في 2008، ولمخرجات مؤتمر الدوحة التي اخترعت بدعة الحصول على “الثلث المعطل” في أي مجلس وزراء، ثم لاستساغته القيادة من خلف، مع رئيس للدولة يشبه في موقعه ودوره موقع رئيس الجمهورية في إيران لجهة علاقته بالمرشد، صاحب القرار في كل كبيرة وصغيرة.

ليس في هذا النهج ما يفاجئ إذا وُضع في إطاره الإقليمي، لكنه في إطاره المحلي سيعتبر إخلالاً بطبيعة النظام والمجتمع في لبنان، القائمة على تعددية طائفية ومذهبية، تلتقي في إطار من النظام الدستوري البرلماني، مدعومة بأعراف وتقاليد تحفظ حقوق الآخر وحريته وتحترم خصوصياته وكرامته.

“لا يوجد مجتمع حر من دون أعراف” قال الكسي توكفيل أحد منظري الديمقراطية الأوائل، وفي لبنان “الديمقراطي” كانت أعراف احترام التوازنات الطائفية والاجتماعية والمواعيد الدستورية في صلب الحياة السياسية والدستورية. حاول النظام السوري التلاعب بهذه الأعراف خلال فترة هيمنته على لبنان. لم يذهب بعيداً في الإخلال بالتوازنات، ولو شكلياً، لكن النظرة إليه كقوة هيمنة أجنبية كانت “تتفهم” سلوكياته التي سترحل مع رحيله.

“حزب الله” وتوأمه “حركة أمل” ذهبا بعيداً في محاولة نسف القاعدة التي يقوم عليها النظام، بما هي دستور وأعراف. وفي تعاطيهما مع مسألة رئاسة الجمهورية لم يدعا مجالاً للشك في محاولتهما الانقلاب على التوازنات والقواعد بما في ذلك على النظام البرلماني نفسه، الذي وضع الأغلبية البرلمانية في الضفة الأخرى المقابلة .

لم يأخذ “الثنائي” بموازين القوى البرلمانية والشعبية. ولم يتوقف عند التقاء الغالبية المسيحية مع ممثلي الطائفة الدرزية ونواب سنّة يفتقدون القيادة ونواب جدد خرجوا من رحم انتفاضة اللبنانيين في موقف واحد يرفض خياره الرئاسي. لم يعد للبرلمان والانتخابات العامة أهمية ولم يعد للقاء الطوائف والفئات الأخرى اللاطائفية أي حساب.

أقفل رئيس المجلس النيابي المجلس بعد خروج نوابه ونواب شريكه، وصرح لقد نجونا من كارثة. لم يفصح عن قصده لكن النيات واضحة: انتصار الديمقراطية هو كارثة بالنسبة لهذا النوع من التنظيمات الطائفية التي تعيش قلباً وقالباً في مكان آخر ولا يعنيها بلدها وسكانه إلا كساحة نفوذ وهيمنة.

لا يخفي حزب الله موقعه بالنسبة إلى لبنان. هو في الإعلان الرسمي منصة صواريخ وجحافل من الأنصار تستعد لاختراق الجليل في شمال فلسطين “على الدراجات أو مشياً”، هذا هو قراره من دون أي اعتبار لموقف الحكومة اللبنانية أو موقف مؤسساتها الدستورية والأمنية. لكنه عندما يتحدث عن فلسطين أو سوريا بوصفهما معنيتين مباشرة بالاحتلال الإسرائيلي يختلف الأمر .

هو يقف خلف ما تقرره الفصائل الفلسطينية في فلسطين (حماس والجهاد)، وفي سوريا يرى أن “الذي يقرر ماذا سيحصل في الجولان هي القيادة السورية” على قول رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله هاشم صفي الدين في حديث مستفيض لوكالة “تسنيم” الإيرانية.

الحزب في رؤيته هذه جزء من “محور كامل، قوي مقتدر. واجه كل المحاولات من سوريا والعراق إلى اليمن ولبنان وفلسطين، وإيران موقع الاقتدار الأقوى. هذا دليل أن المحور قوي ويستند إلى قوة متينة وله قيادة عظيمة”.

يختصر صفي الدين الصورة العنصر اللبناني في المحور يعود قراره إلى “القيادة العظيمة”، فلا داعي لاجتهادات كبرى قبل معرفة الرأي الأخير لهذه “القيادة”.

في الانتظار يتم تخريب البيت اللبناني الداخلي، وتزداد قناعة اللبنانيين، أن ميزان القوى الداخلي الاجتماعي والشعبي والنيابي، قد لا ينفعهم كثيراً في تغيير موقف تنظيم صاروخي لكنه يوضح للعالم العربي ودول العالم الأخرى الحريصة على لبنان، إنه يرفض الإلحاق بمحور يضعه دائماً على خط الزلازل، فيما يحتاج إلى استقرار افتقده طويلاً.

قد يكون الأجدى انتظار تغيير في موقف “القيادة العظيمة” في طهران، يأمل كثيرون، وربما تنجح المتغيرات والمساعي الإقليمية والدولية في تحقيق هذا التغيير. وعندها سيكون انتخاب الرئيس جرعة ماء سهلة بعد شهور التعطيش والتلاعب والمقامرة بمصير بلد جميل، ويعود الأطراف في لبنان إلى حجمهم وسيرتهم السياسية الطبيعية.

زر الذهاب إلى الأعلى