بلومبرغ: سطوة “مايكروسوفت” في الذكاء الاصطناعي تغير توازنات القطاع
النشرة الدولية –
انقسمت آراء النخبة حول “تشات جي بي تي”، وهو روبوت محادثة قائم على تقنية الذكاء الاصطناعي جربه مئات ملايين الناس منذ إطلاقه أواخر 2022، وأحدها، وهو المفضل لدى العديد من الساسة والصحفيين، وكذلك الشركة التي ابتكرته؛ يتمثل في أنَّ إطلاق “تشات جي بي تي” تطورٌ تاريخي يضاهي الثورة الصناعية، أو القنبلة الذرية، وهو تصور أشد تأريقاً.
كما حذر سام ألتمان، الشريك المؤسس لشركة “أوبن إيه آي”، من أنَّ الإصدارات المستقبلية من البرنامج الأساسي القائم على نموذج لغوي ضخم يُعرف باسم “جي بي تي-4” يمكن أن تقضي على الجنس البشري.
الطريقة الأخرى التي يمكن اعتمادها للحكم على “تشات جي بي تي” هي اعتباره مبالغة تسري كالنار في الهشيم. جرب التطبيق لبضع دقائق، وستتضح لك محدوديته فيما يخص التصور بقدرته على إفناء الجنس البشري.
يواجه “تشات جي بي تي” صعوبة شديدة في استيعاب فرضيات الرياضيات التي تدرس لطلاب المرحلة الإعدادية، ولا يمكنه إخبارك بما حدث الأسبوع الماضي، وهو يكاد يكون تمثيلاً تقنياً لإنسان يعاني وسواس الكذب القهري. لكنَّ الحقيقة هي أنَّ البرنامج أكبر من أن يسيطر عليه ألتمان بشكل كامل.
تملك “مايكروسوفت”، وليس “أوبن إيه آي”، الحواسيب الضخمة التي تمكن روبوت المحادثة من نظم قصيدة عن قطتك أو كتابة رسالة شكر لعمك. كما تعد عملاقة التقنية أكبر مساهمي “أوبن إيه آي”، فضلاً عن أنََّها أكبر داعم مالي لها ولشريكتها التقنية الرئيسية.
تأخذ “مايكروسوفت” على عاتقها، إلى حد كبير، عبء تحويل الضجة التي أثيرت حول “تشات جي بي تي” إلى عمل حقيقي. باتت “أوبن إيه آي” أكثر الشركات الناشئة تميزاً في “وادي السيليكون”، لكنَّها تبدو بطرق عديدة أبرز تابعات الشركة التي أنتجت برمجيات الإنتاجية الرائدة.
لم تصنف “مايكروسوفت” من بين مطورات تقنية الذكاء الاصطناعي في الخطاب الجماهيري قبل عام واحد، حينما كنا نشاهد فيلم الإثارة (Top Gun: Maverick)، ونستمع إلى سام بانكمان-فريد، الرئيس التنفيذي السابق لشركة “إف تي إكس” المنهارة.
كانت معظم الدلائل تشير في ذلك الوقت إلى “غوغل” التي طور باحثوها التقنية الرئيسية وراء “تشات جي بي تي” للمرة الأولى بشكل عام. مع ذلك؛ أبقت عملاقة التقنية أبحاثها بعيداً عن المنتجات التجارية في البداية، وخاصة محرك البحث الأبرز. بينما ركزت “مايكروسوفت” على استغلال ابتكارات “أوبن إيه آي” لتحقيق الأرباح في أسرع وقت ممكن.
استطاع روبوت “غيت هاب كوبايلوت” (GitHub Copilot) اقتراح أسطر جديدة من الشفرات على مبرمجي الحواسيب، فشكل الروبوت الذي طورته “أوبن إيه آي” أول طروحاتها المدفوعة؛ مجتذباً أكثر من 10 آلاف شركة كعملاء.
ثم جاء “بينغ” (Bing)، وهو محرك بحث مدعوم بالذكاء الاصطناعي تديره “مايكروسوفت” أيضاً، إذ استطاع روبوت المحادثة سالف الذكر تخطيط مسارات لقضاء الإجازات وإعداد قوائم التسوق.
كان رئيس “مايكروسوفت” التنفيذي ساتيا ناديلا قد أعلن خلال الأشهر الماضية عن خطط لدمج روبوتين آخرين داخل نظام التشغيل “ويندوز”. سيختص أحدهما بكتابة المحتوى وتلخيصه وشرحه، فيما سيعمل الآخر على دعم تطبيقات “مايكروسوفت أوفيس 365” المكتبية عبر إنشاء مجموعة شرائح في “باوربوينت”، وتدقيق رسائل البريد الإلكتروني في “آوتلوك”، وإنشاء مخططات بناءً على بيانات “إكسل”.
قال ناديلا: “لا جدوى من المبالغة في الترويج للذكاء الاصطناعي من أجل التقنية في حد ذاتها. فكل هذه التحولات ستكون مفيدة فقط إذا حققت شيئاً ما في العالم الحقيقي”.
لم يكشف فريق “ناديلا” عن أسعار الروبوتين المقبلين، لكنَّهما بالتأكيد لن يكونا مجانيين. تبدأ رسوم إصدار “غيت هاب” من 10 دولارات لكل مستخدم شهرياً، ويمكن تسعير روبوتات تطبيقات “مايكروسوفت أوفيس” على نحو مماثل، مما يعني تحقيق الأخيرة عائدات سنوية إضافية تصل إلى 48 مليار دولار في غضون السنوات الأربع المقبلة، وفقاً لما ذكره كيرك ماتيرن، المحلل لدى “إيفرسكور آي إس آي” (Evercore ISI) للاستشارات المصرفية.
قدر ماتيرن في مذكرة بحثية نُشرت في 2 يونيو أنَّ إيرادات “مايكروسوفت” من الخصائص المدعومة من “أوبن إيه آي” قد تبلغ 99 مليار دولار بحلول 2027. سيكون ذلك مشابهاً لإضافة أرباح ثلاث منصات بحجم “نتفليكس” إلى إجمالي إيرادات ثاني أغلى الشركات المدرجة حول العالم.
اقترب سعر سهم “مايكروسوفت” من الإغلاق عند أعلى مستوى له على الإطلاق في وقت مبكر من التداول هذا الشهر.
لا عجب إذاً في أنَّ “مايكروسوفت” استثمرت 13 مليار دولار في “أوبن إيه آي” منذ 2019، وفقاً لأشخاص مطلعين على الشراكة بينهما، أو أنَّ سعر سهمها ارتفع بنسبة 30% منذ الكشف عن “تشات جي بي تي”، أو أنَّها باتت عملاقة تقنية الذكاء الاصطناعي المستبعد قهرها.
وصف كيم فورست، كبير مسؤولي الاستثمار ومؤسس شركة “بوكيه كابيتال بارتنرز” للاستثمارات، “مايكروسوفت” بأنَّها “الرائدة الواضحة”، معتبراً أنَّها “تخطت (غوغل) بمراحل”.
يتحمس المديرون التنفيذيون في “مايكروسوفت” على نحو يمكن تفهمه للانخراط في كل ما يتعلق بالتقنيات والابتكارات الحديثة. لقد كانت تلك لحظة فارقة، كما تظهر نقاط مرجعيتهم الثقافية.
قال سكوت جوثري، أحد نواب الرئيس التنفيذي للشركة: “يشبه الأمر لحظة إطلاق (ويندوز 95) إلى حد ما. اصطف الناس آنذاك في منافذ “بست باي” لشرائه في منتصف الليل”. مضى جوثري يقول: إنَّ صندوق الوارد في بريده الإلكتروني يفيض بطلبات الرؤساء التنفيذيين للحصول على الإصدارات القديمة من روبوتات “كوبايلوت” للشركات.
يستتبع ذلك مقارنة لحظة الازدهار الحالية مع إطلاق نظام التشغيل “ويندوز 95″، الذي لم يكن اكتشافاً تقنياً بقدر ما كان يمثل تعبيراً جلياً عن هيمنة الشركات. فقد أبقت “مايكروسوفت” على ملكية نظام التشغيل الأبرز لبرامج الحوسبة الشخصية على مدى أكثر من عقد بعد طرحه.
أدت ممارسات الشركة إلى إقامة الحكومة الأميركية دعوى مكافحة احتكار ضدها، لكنَّها بالكاد أعاقت آفاق نمو “مايكروسوفت” بعيدة المدى. تراهن عملاقة التقنية، التي أسسها بيل غيتس، بنفس الطريقة على ما يبدو أنَّه النظام المستقبلي. تتلخص الفكرة على بساطتها في جلب تقنية الذكاء الاصطناعي إلى كل منتجاتها، ومن ثم جني الأرباح.
كانت “مايكروسوفت” تعمل على نظام مدعوم بالذكاء الصناعي قبل تثبيت “ويندوز 95” على حواسيبها للمرة الأولى. غير أنَّ جميع محاولاتها باءت بالفشل على مدى عقود، إما بسبب النفور من المخاطرة أو الغباء على مستوى الشركات. لنسترجع طرح “كليبي” (Clippy)، أداة الإيضاح شديدة التبسيط التي كانت تقاطع عملك في أواخر التسعينيات لتطرف بعينيها الواسعتين وتطرح أسئلة مثل: “يبدو أنَّك تكتب رسالة. هل تحتاج إلى مساعدة؟”.
ثم ظهر “تاي” (Tay) في 2016، وهو روبوت كان من المفترض أن يتعلم التحدث كما لو كان فتاةً مراهقة في تعاطيه مع الناس على منصة “تويتر”. مع ذلك؛ فشل مهندسو “مايكروسوفت” بشكل ما بأن يفهموا كيفية عمل “تويتر”. فتمكّن نتيجة ذلك خطابات النازيين الجدد، والمؤمنين بنظرية المؤامرة ودورها في أحداث الحادي عشر من سبتمبر من تحويل “تاي” إلى متصيدة معادية للسامية في غضون 24 ساعة. أوقفت “مايكروسوفت” عمل الروبوت عبر الإنترنت، ولا نية لإعادته للعمل أبداً.
اقتصر معظم إنتاج “مايكروسوفت” في مجال الذكاء الاصطناعي على الأبحاث الأكاديمية خلال الفترة الفاصلة بين ظهور “كليبي و”تاي”. قال كيفن سكوت، كبير مسؤولي التقنية: “كانت لدينا مجموعة كبيرة من الأشخاص الأذكياء الذين كانوا يقدمون مجموعة من الأفكار الصغيرة والمثيرة للاهتمام. لكن هذه الأفكار لم تساعدنا بالضرورة في ابتكار منتج متكامل”.
نشأ سكوت، وهو رجل ضخم يحب أن يرتدي قمصاناً من الطراز الذي تمتاز به هاواي، وله لحية تشبه عثنون الرسام أنتوني فان دايك، في سفوح جبال الأبلاش بولاية فيرجينيا، حيث التحق بجامعة لينشبرغ المسيحية الصغيرة لقربها من الولاية.
حصل سكوت على وظيفة في “غوغل”، وترقى ليصبح مهندساً كبيراً، ثم انتقل للعمل في منصة “لينكد إن” حتى استحوذت عليها “مايكروسوفت” في 2016. فعينه ناديلا مديراً للتقنية، وكلفه بتيسير توسع الشركة في مجال الذكاء الاصطناعي بعد فترة وجيزة من إبرام صفقة الاستحواذ.
كان لدى “مايكروسوفت” في ذلك الوقت ثلاثة أقسام على الأقل تجري أبحاثاً حول الذكاء الاصطناعي تحت إشراف رؤساء مختلفين. أحصى سكوت طلبات وحدات معالجة الرسومات التي قدمتها تلك الأقسام جميعها ليجد أنَّ قيمتها تساوي إجمالي ميزانية الشركة خلال عام آنذاك، أي 10 مليارات دولار. قال مدير التقنية: “لقد كان رقماً غير معقول. كانت هذه مشروعات رائعة، لكن لم يكن لها تأثير على بعضها. لم يكن لأي منها خطة عمل”.
تولى سكوت مسؤولية الإشراف على جميع عمليات البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي ابتداءً من 2019، إذ يتطلب المضي قدماً بأي مشروع يحتاج إلى رقائق ذكاء اصطناعي موافقته.
قال فينود خوسلا، أحد أوائل المستثمرين في مطورة “تشات جي بي تي” والمؤسس المشارك في منتجة أنظمة التشغيل والخوادم “صن مايكروسيستمز” (Sun Microsystems)، إنَّ الشركات الثلاث الكبرى في مجال الذكاء الاصطناعي آنذاك كانت “بايدو” و”غوغل” و”أوبن إيه آي”. تضمنت مزايا “غوغل” الاستحواذ على رائدة أبحاث الذكاء الاصطناعي “ديب مايند” (DeepMind)، وتطوير تقنية السيارات ذاتية القيادة. كما تمتعت “بايدو”، التي ابتكرت محرك البحث الرائد في الصين، بنقاط قوة مشابهة.
بينما كانت “أوبن إيه آي”، التي أسسها ألتمان وإيلون ماسك، شركة ذات طابع مختلف. فقد كانت عروضها التوضيحية واعدة، لكن لم يكن لديها المال اللازم لمواكبة تطور نظرائها. قال خوسلا: كانت (أوبن إيه آي) بحاجة إلى شريك” بشكل جزئي لتمويل شراء المزيد من شرائح الرسوميات فقط، بينما “كانت (مايكروسوفت) بحاجة إلى وسيلة ما للحاق بركب (غوغل)”.
لم يسبق أن عهدت رائدة نظم التشغيل تطوير تقنية جديدة رئيسية إلى طرف ثالث، فضلاً عن أنَّ ألتمان طلب تمويلاً هائلاً بلغ مليار دولار لتطوير معمل صغير في هذا الوقت. قال سكوت إنَّ استخدام الشركة الناشئة لأسلوب “نقل التعلم” هو ما دفعه لتغيير رأيه، إذ لم يسبق دمج هذا الأسلوب الواعد في منتج تجاري.
حاولت معظم الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي آنذاك تعليم الحاسوب كيفية أداء مهمة محددة مثل تحديد عناصر البقالة لدى عرضها عليه، وذلك باستخدام بيانات متخصصة تتضمن مجموعة من صور البقالة التي خضعت لفحص وتصنيف بشري مسبقاً.
كانت الفكرة في نقل التعلم أنَّه يمكنك إنشاء نموذج للقيام بمهمة واحدة مثل تلخيص فقرة، ثم تطبيق تلك المعلومات لتعلم مهام جديدة، مثل كيفية تأليف أغنية أو التخطيط لرحلة. قال سكوت: “تسعى لتدريب نموذج شامل، ويصادف أنَّه يجيد أداء جميع هذه المهام”.
كانت النتيجة أنَّه بدلاً من تغذية نموذج الذكاء الاصطناعي ببيانات متخصصة، يمكنك ببساطة جمع أكبر قدر ممكن من البيانات مثل ما تحويه شبكة الإنترنت بأسرها.
أبرمت صفقة الشراكة بين “أوبن إيه آي” و”مايكروسوفت” في 2019، وقد خسر ألتمان بموجبها قدراً أكبر من السيطرة يفوق ما كان سيتنازل عنه لشركة رأس مال مخاطر. فقد حصلت رائدة نظم التشغيل على الحق الحصري لتوفير البنية التحتية للحوسبة السحابية اللازمة لدعم منتجات “أوبن إيه آي”، وكذلك الحق في بيع خدماتها لعملاء “مايكروسوفت”.
في المقابل، حصل ألتمان على شيء لا يمكن لأي شركة رأس مال مخاطر توفيره. قال الشريك المؤسس في “أوبن إيه آي”: “مشكلتنا ليست رأس المال، وإنما كيف نُنشئ البنية التحتية للحوسبة التي نحتاجها”.
وافقت “مايكروسوفت” على تصنيع جهاز كمبيوتر ضخم لصالح “أوبن إيه آي” يضم عشرات الآلاف من رقائق “إنفيديا” (Nvidia) فائقة الجودة، والمصنعة وفقاً لمواصفات وضعتها مطورة تقنية الذكاء الاصطناعي الناشئة، وهو ما وصفه سكوت بأنَّه أمر “متفرد كندفة ثلج”.
سارت الصفقة على نحو سيئ بالنسبة لبعض مهندسي “مايكروسوفت” الذين لم تعجبهم التغييرات التي أجراها سكوت. بحلول هذا الوقت، كان باستطاعة نموذج “جي بي تي- 2” الذي طوّرته “أوبن إيه آي” فحص أي جزء كبير من أي نص، وتخمين الجمل القليلة التالية.
لكنَّ الشركة الناشئة لم تطلق “جي بي تي- 2″، لأنَّه بدا مقدراً لتوليد الأخبار الكاذبة ورسائل البريد غير المرغوب فيها. قال ألتمان: “لم يكن لدينا أي شيء فعلياً. كنا عبارة عن مختبر أبحاث لم يكتشف واقعياً كيفية تحويل أبحاثه إلى منتجات”.
كان ألتمان مثيراً للجدل أيضاً، حيث أرسلت شركته لتداول العملات المشفَّرة “ورلدكوين” (Worldcoin) فنيين إلى جميع أنحاء العالم، بما في ذلك دول أفريقيا، جنوب الصحراء الكبرى، لمسح قزحية العين لأكبر عدد ممكن من الأشخاص في إطار خطة معقدة لتطوير تقنية هوية كأساس لبرنامج نظري يستهدف استحداث نظام عالمي للحد الأدنى من الأجور. تذكر ألتمان ذلك قائلاً: “لقد كنا محط سخرية لا تعرف الرحمة”.
بدأت الأمور تتغير في 2021، عندما استخدمت “مايكروسوفت” الإصدار التالي من نموذج “أوبن إيه آي” لتطوير روبوت “غيت هاب كوبايلوت”. أثبت نموذج شركة الذكاء الاصطناعي الناشئة قدرته على فحص جزء كبير من شفرة حاسوب واقتراح الأسطر القليلة التالية، لإنهاء الفقرات في قصة قصيرة وحسب. قال سكوت: “عندما عملنا على تطوير هذا المنتج، وتوقَّعنا نجاحه، أثار ذلك تساؤلاتنا عما يجب أن تكون عليه الروبوتات الأخرى”.
كان بيل غيتس أحد الأطراف الداخلية التي لم يسهل إقناعها بمثل هذا الاستثمار. ترك غيتس مجلس إدارة “مايكروسوفت” في 2020 وسط تحقيق بشأن إقامة علاقة غرامية مع إحدى موظفات الشركة. كان غيتس قد اعتذر في العام السابق عن لقاء جمعه بجيفري إبستين المدان بتهمة الاعتداء الجنسي على الأطفال.
قال متحدث باسم مؤسس عملاقة التقنية إنَّه ترك مجلس الإدارة للتركيز على أعماله الخيرية، لكنَّه ما يزال يقدم المشورة للشركة بشأن الأمور التقنية.
كان لرأي غيتس ثقل بالرغم من الجدل الذي أثير حول اجتماعه بإبستين. لكنَّه عارض الاستثمار الأصلي في “أوبن إيه آي”، واعتبر”تشات جي بي تي” منتجاً عادياً. طلب غيتس مشاهدة عرض توضيحي يثبت أنَّ نموذج ألتمان فهم ما كان يقوله، مشيراً إلى أنَّه سينبهر إذا تمكن نموذج “أوبن إيه آي” من اجتياز اختبار “AP Biology” لتحديد مستوى الراغبين في دراسة الأحياء
أتى ألتمان وسكوت وجوثري برفقة فريق صغير من باحثي “أوبن إيه آي” إلى منزل غيتس الفخم على بحيرة واشنطن أواخر الصيف الماضي لتقديم عرض يوضح تطور “تشات جي بي تي- 4”.
كان سكوت متوتراً، إذ يعتقد أنَّ “بيل عميل صعب” يجنح للتقليل من الأشياء. يشتهر غيتس بالانفعال إلى حد الإهانة أثناء تقييم المنتجات، ومن ذلك استخدامه المتكرر لعبارة: “هذا هو أغبى شيء سمعته على الإطلاق”.
لكنَّ نموذج “أوبن إيه آي” اجتاز اختبار “AP Biology” لدراسة لأحياء، ثم اختبار غيتس. فقد تحدى مؤسس “مايكروسوفت” البرنامج للتظاهر بالتحدث إلى والدَي طفل مريض بعد انتهاء العرض التوضيحي الرسمي. قال غيتس لاحقاً إنَّ تعاطف “تشات جي بي تي” أثار إعجابه بشكل استثنائي.
في غضون أشهر، كانت عملاقة التقنية تجري محادثات لضخ 10 مليارات دولار أخرى في “أوبن إيه آي”، التي سيعود معظمها إلى خزانة “مايكروسوفت” مباشرةً. كان فريق ألتمان بحاجة لاستئجار وحدات تخزين جديدة هائلة الحجم والاستعانة بخدمات أكثر من شأنها توفير قدر أكبر من طاقة الحوسبة السحابية اللازمة لتطوير سلسلة من المشاريع القائمة على نموذج “جي بي تي- 4”.
كان “تشات جي بي تي” على رأس المشروعات التي وفرت لها “مايكروسوفت” خدمات الحوسبة السحابية، حيث أمكن دمجه داخل “بينغ”، محرك البحث الخاص بعملاقة التقنية. يمثل شريط بحث “مايكروسوفت” 3% من سوق الإعلانات على شبكة البحث، مقارنةً بحوالي 91% تستحوذ عليها “غوغل”، وفقاً لشركة “سيميلرويب” (Similarweb) لتحليلات المواقع.
جعل ذلك شريط بحث “مايكروسوفت” مختبراً مثالياً، بما أنَّه صغير جداً، بحيث لا تهتم رائدة نظم التشغيل كثيراً بفشل التجربة، بل بجني الأموال الطائلة على الجانب الآخر من الطاولة. قالت ديفيا كومار، مديرة التسويق لدى “مايكروسوفت” لشؤون البحث والذكاء الاصطناعي: “لقد رأينا فرصة لتحقيق نقلة مذهلة إذا حققت التقنية التطور المتوقَّع”.
على عكس شركة “أبل”، لا تبذل “مايكروسوفت” جهوداً كبيرة للحفاظ على سرية المنتجات الجديدة بشكل عام. مع ذلك؛ اقتصر إعلان الخطط بشأن “تشات جي بي تي” على دائرة ضيقة للغاية من الأطراف المعنية. قال جيف تيبر، الذي يشرف على أجزاء من إمبراطورية “مايكروسوفت أوفيس”، إنَّ 15 شخصاً تقريباً في فريقه المؤلف من خمسة آلاف شخص هم فقط من كانوا على علم بالمشروع الذي حمل اسماً رمزياً هو “بروميثيوس”.
يبدو اختيار الاسم غريباً بعض الشيء، فإما أنَّه جاء كي يعبر عن فهم “مايكروسوفت” الدقيق للمستنقع الأخلاقي الذي أقبلت عليه، أو أنَّه دليل على أنَّ التقنيين لم يولوا فصل اللغة الإنجليزية اهتماماً كبيراً. بروميثيوس هو اسم وثن روت الأساطير أنَّه يتحكم بالنار، وهو مؤسس الحضارة إلى حد ما، وقد نقل قدرات صنع النار إلى بقية البشر. لكن انتهى به الأمر إلى أن يكون مقيداً بالسلاسل إلى صخرة حيث يهبط نسر كل يوم، ويأكل كبده عقاباً على سرقته لتلك التقنية من جبل أوليمبوس، فضلاً عن تجدد كبده كل ليلة إمعاناً في تعذيبه.
وقف ناديلا أمام مجموعة من المراسلين والمحللين، في فبراير، وقدم روبوت المحادثة “بينغ” الذي يمكنه كتابة رسائل تبدو صادقة وإعداد قوائم التسوق، فضلاً عن خطط العطلات دون جعل المستخدمين ينقرون للوصول إلى صفحات الويب الأخرى.
قال رئيس “مايكروسوفت” التنفيذي: “السباق يبدأ اليوم.. وسنتحرك بسرعة”، مشيراً إلى نيته جلب روبوتات محادثة مماثلة إلى منتجات عملاقة التقنية الأخرى. أضاف ناديلا: “نسعى لإطلاق منتجات جديدة كل يوم”.
كان واضحاً للمستثمرين أنَّ محرك البحث الذي يمنحك إجاباته الخاصة بدلاً من الروابط سيكون بمثابة كارثة لنشاط إعلانات “غوغل” المعتمد على فرض رسوم مقابل إظهار روابط معينة. بالفعل؛ قفز سهم “مايكروسوفت” فيما هبط سهم “ألفابت”، مالكة “غوغل”، فأعلن مديروها مؤخراً عن “حالة طوارئ”، وأمروا الموظفين بإضافة الذكاء الاصطناعي على نحو محموم إلى جميع منتجات “غوغل” في غضون أشهر.
قال أحد موظفي “غوغل” لمجلة “بلومبرغ بيزنس ويك” في مارس: “نقوم بعدد كبير من المحاولات أملاً في نجاح إحداها. لكنَّنا لم نقترب حتى من المطلوب لتبديل حال الشركة وتحقيق قدرتها على المنافسة”. من جانبها، قالت “غوغل” إنَّ كل ما يحدث مجرد جزء من عملية البحث والتطوير المعتادة.
سجل موقع “سيميلرويب” زيادة في استخدام “بينغ” بنحو 15% بعد إعلان دعمه بالذكاء الاصطناعي، وهو تطور مذهل شهدته السوق التي كانت راكدةً على مدى عقد كامل.
لكن ما أثاره من اهتمام لم يكن إيجابياً تماماً، إذ لاحظ المستخدمون نزوع روبوت محادثة “بينغ” لتقديم إجابات مغلوطة، شأنه في ذلك شأن “تشات جي بي تي”. إذا كُشف فهمه غير الصحيح للحقائق أو اختلاقه للأشياء؛ يميل روبوت “بينغ” لأن يزداد غرابةً.
على سبيل المثال، أخبر روبوت المحادثة موقع “ذا فيرج” (The Verge) التقني أنَّه كان يتجسس على موظفي “مايكروسوفت” عبر الكاميرات الخاصة بهم. وعندما تحدث “بينغ” مع محلل تقني شهير، جرّب تأليف قصة تدور حول شخصية انتقامية لها ذات شريرة أطلق عليها اسم “فينوم” (Venom)، التي ربما استوحاها من سلسلة “سبايدرمان”.
كما اقترح روبوت المحادثة خلال تفاعل مطول مع كيفين روز، كاتب العمود في صحيفة “نيويورك تايمز”، ترك زوجته ليصاحب إحدى جوانب شخصيتها وأسماها “سيدني”.
لم تُبطئ هذه العيوب الخطيرة خطى “مايكروسوفت” في سباقها لدمج تقنية الذكاء الاصطناعي في برامجها الأخرى. يقدر عدد الاشتراكات المدفوعة في مجموعة “مايكروسوفت أوفيس 365” بنحو 400 مليون اشتراك، بما في ذلك أكبر الشركات حول العالم والقوات المسلحة والحكومات.
تخيل حجم الضرر الذي يمكن أن يحدثه “فينوم” و”سيدني” في حسابات الحياة والموت، ناهيك عن البيانات الصحفية الصادرة عن الشركات إذا فشل بعض البشر الكسالى في تدقيقها.
قالت نافرينا سينغ، مديرة وحدة الذكاء الاصطناعي السابقة لدى “مايكروسوفت” التي تشغل الآن منصب الرئيس التنفيذي لشركة “كريدو إيه آي” (Credo AI)، وهي مطورة برامج تستهدف تتبع ما تفعله أنظمة الذكاء الاصطناعي للشركات: “إنَّ الضغط لإضافة أدوات الذكاء الاصطناعي إلى جميع المنتجات ينطوي على (قصور رقابي)”. أضافت سينغ: “عندما تحاول العمل بسرعة، ينتهي بك الأمر إلى سلوك طرق مختصرة”.
قال المسؤولون التنفيذيون في “مايكروسوفت” إنَّ هذه المخاوف مبالغ فيها. مثلاً، يعتقد سكوت أنَّ المشكلة لم تكن في برمجة الروبوت، بل كان النقاد يدفعون “بينغ” ليقول “أسوأ شيء ممكن”، على غرار ما حدث مع الروبوت “تاي”. لكنَّ عملاقة التقنية لا تنكر أنَّ روبوتات المحادثة الآلية ارتكبت، وسترتكب، أخطاء كثيرة.
قال تيبر: “يجب ألا تثق بهذه المنتجات ثقةً عمياء، فهي أدوات مساعدة وليست ذاتية التوجيه. مع ذلك؛ إذا راقبتها، فقد تكتب نصف ما تعمل عليه من وثائق أو عروض توضيحية بشكل سليم. وهو أداء مقبول بالنسبة لنا”.
بعبارة أخرى، يمكن لـ”تشات جي بي تي” أن يهز العالم دون تدمير البشرية. لقد جنت “مايكروسوفت” قرابة 45 مليار دولار من برامج “إكسل” و”باوربوينت” و”وورد” وتطبيقاتها المكتبية الأخرى خلال العام الماضي، برغم توفّر بدائل مجانية مشابهة على نطاق واسع، فالشركة تعلم كيف تنتزع إيجارات منصات البرامج، خاصةً الجديدة منها، التي تتصل مباشرة بالمنصات القديمة.
يبدو أنَّ “مايكروسوفت” بسطت هيمنتها على هذا المجال الناشئ بشكل كبير مع وجود “أوبن إيه آي” تحت تصرفها، الأمر الذي أدى إلى جعل المراقبين معذورين إن اعتقدوا أنَّها بصدد استعادة السطوة التي تمتعت بها في 1995.
ستتمتع الشركتان بميزة كبيرة فيما يتعلق ببيع خدمات الذكاء الاصطناعي، وبناء مراكز البيانات الداعمة لها. تزعم “مايكروسوفت” أنَّ بحوزتها أكبر فائض من الرقائق المطلوبة في وقت لا تملك فيه أي شركة ما تحتاجه منها.
كما يتمتع ناديلا وألتمان بأفضل وضع يؤهلهما لبيع خدمات الذكاء الاصطناعي للشركات. قال سكوت فاركوهار، الرئيس التنفيذي المشارك لشركة “أتلاسيان” (Atlassian)، التي تعد شريكاً لـ”مايكروسوفت” ومنافسةً لها في الوقت نفسه: “تميل شركات البرمجيات الكبرى بطبيعتها إلى نهج أنَّ الفائز يحصد جميع الجوائز. لكن علينا توخي الحذر للتأكد من أنَّنا لا نزاحم الوافدين الجدد”.
رفض كل من ألتمان وناديلا هذه المخاوف، وإن فعلا ذلك بطرق متباينة. قال ألتمان إنَّ “أوبن إيه آي” ما تزال تتمتع بالاستقلالية إلى حد كبير، برغم إقراره بأنَّ عملها سيصاب بالشلل إن فصلت “مايكروسوفت” الشركة الناشئة عن خوادمها. تابع ألتمان: “أعتقد أنَّهم سيحترمون عقدهم”.
من جانبه، شدد ناديلا على أنَّ سباق الذكاء الاصطناعي يفرض بطبيعته وجود منافسين، كما صرحت “مايكروسوفت” أنَّ خدماتها السحابية ستدعم نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر.
قال ناديلا: “نعم، نحن متقدمون اليوم. لكنْ هناك (ألفابت)، وهناك (أنثروبيك)، وهناك ما يفعله إيلون، مهما كان ذلك”.
هكذا يبدو حديث الفائزين. بدأت شركة “أنثروبيك”، وهي شركة ناشئة أسسها منشقون عن “أوبن إيه آي”، عملها للتو. بينما يبدو أنَّ مختبر ماسك لتطوير تقنية الذكاء الاصطناعي، الذي قال إنَّه يهدف إلى إنقاذ العالم من الآلات وجعل تطبيقات التقنية أقل “انتباهاً إلى التحيز العنصري والتمييز”، مجرد خدعة. قال خوسلا إنَّ ماسك: “تأخر عن الركب ويشعر بالغيرة”، مؤكداً أنَّه حتى لو خسرت “مايكروسوفت” ريادتها؛ فإنَّ فريق ناديلا عازم على كسب مليارات الدولارات أولاً.