انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان ورقة سياسية لا استحقاق دستوري
لا يمكن إيجاد مخرج للأزمة الحالية في ظل الانقسام العمودي إلا بتسوية إقليمية دولية
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية –
فرضت وقائع الجلسة الـ12 لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان، في 14 يونيو (حزيران) الحالي، والتي وصفت بأنها جلسة “الورقة الضائعة”، و”هرطقة قانونية جديدة” نظراً إلى اللغط الذي نتج من فقدان ورقة اقتراع في عملية التصويت، مفاعيلها على الحياة السياسية في البلاد.
انتهت تلك الجلسة إلى تقدم مرشح المعارضة أي الوزير السابق جهاد أزعور، مقابل رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية. وعلى وقع تلك المعطيات وصل الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت، آتياً من باريس التي كانت قد استقبلت قمة جمعت ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، دعا خلالها الزعيمان إلى “ضرورة الإسراع في وضع حد للفراغ السياسي المؤسساتي في لبنان”، وفق ما أعلن الإليزيه في بيان 16 يونيو، إثر انتهاء الاجتماع. وشدد البيان على أن عدم انتخاب رئيس منذ ثمانية أشهر “يبقى العائق الرئيس أمام معالجة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الحادة” التي تعانيها البلاد.
أزمة عند كل استحقاق دستوري
وكان سبق بيان الإليزيه الذي شدد على “وضع حد للفراغ السياسي المؤسساتي”، بيانات ودعوات عدة صدرت عن الجامعة العربية وقمم خليجية ومنظمات أممية ومجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، وعبرت جميعها عن قلقها إزاء تداعيات استمرار الفراغ الرئاسي، وحثت المسؤولين والقيادات السياسية على العمل من أجل وضع حد للفراغ، وعلى تحمل مسؤولياتهم والعمل وفقاً للدستور واحترام “اتفاق الطائف” من خلال انتخاب رئيس جديد. ويتمدد الفراغ رويداً رويداً ليطال كل مرافق الدولة مع اقتراب انتهاء ولاية حاكم “مصرف لبنان”، أواخر يوليو (تموز) المقبل وقيادة الجيش أواخر العام الحالي.
ويقول الأستاذ الجامعي المتخصص في القانون الدستوري وتاريخ الفكر السياسي وسام اللحام، في بحث له نشر في “المفكرة القانونية”، “من أمارات انحطاط الدول تنصيب السياسة كحكم على القانون، بينما الصحيح هو تمكين هذا الأخير من لجم الصراع السياسي ضمن الضوابط الحقوقية. ولا غرو أن لبنان تحول إلى دولة تشهد عند كل استحقاق دستوري أزمة سياسية كبيرة لا مخرج منها سوى لعبة توازن القوى بين الأحزاب المختلفة”. ويتابع “في لبنان يمتلك الزعماء مجموعة من الفقهاء تفتي لهم في الدستور بحسب تقلبات أمزجتهم بما يمكن أن نطلق عليه اسم (السياسة الدستورية)”.
وتنص المادة 73 من الدستور اللبناني “قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم مجلس النواب بناءً على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد. وإذا لم يدع المجلس لهذا الغرض فإنه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس، فيما تشير المادة 75 إلى أنه يعتبر مجلس النواب الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أي عمل آخر”، كما يبدو واضحاً من المواد المذكورة من الدستور اللبناني أن الاستحقاق الرئاسي استحقاق دستوري، ويجب على المجلس النواب إجراؤه قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، ولكن لم يتمكن للبنان من بعد “اتفاق الطائف” الذي تم التوصل إليه في عام 1989 أن ينجز الانتخابات الرئاسية بموعدها المحدد، وعادة ما يشهد كرسي الرئاسة إما تمديداً أو فراغاً، وذلك بسبب التعقيدات السياسية والطائفية، فإن اختيار رئيس للبلاد، أو حتى تشكيل حكومة أو تكليف شخصية بتشكيلها يستغرق في العادة أشهراً عدة.
وجاء انتخاب الرئيس السابق ميشال عون في عام 2016 بعد أكثر من عامين من الشغور في سدة الرئاسة، وبعد 46 جلسة برلمانية، بموجب تسوية سياسية بين الفرقاء السياسيين وليس جهداً داخلياً لبنانياً.
“الفراغ أفضل من رئيس يمدد الأزمة”
فهل تحولت انتخابات الرئاسة من استحقاق دستوري إلى ورقة سياسية يخطها المسؤولون كل بحسب مصالحه أو وفق رؤيته للبلد؟ وكان الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، تناول بخطاب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، رؤيته للرئيس القادم، وحدد مواصفته. وقال إن الجماعة تريد رئيساً “مطمئناً للمقاومة، وشجاعاً لا يخاف، ويقدم المصلحة الوطنية على خوفه، ولا يباع ولا يشترى”، مضيفاً أن “الحزب لا يريد رئيساً يغطي المقاومة أو يحميها، بل رئيساً لا يطعنها في ظهرها”. كذلك اعتبر نائب الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم أن “البلد أمام مرشحين: أحدهما جدي والآخر هو الفراغ، وكل المؤشرات المحلية والتطورات الإقليمية لا تنبئ بتغير المشهد”. بدورها دعت المعارضة وفي مناسبات مختلفة إلى إعادة النظر بالصيغة والتركيبة، وإلى ضرورة إدخال تعديل على صيغة النظام أو على الدستور، وصولاً إلى الإعلان أن استمرار الفراغ أفضل من وصول مرشح تابع لـ”حزب الله”.
فحين يطالب “الحزب” برئيس “لا يطعن ظهر المقاومة”، ممَّ يتخوف؟ ولماذا تتهم المعارضة “حزب الله” بعرقلة الانتخابات؟
ويقول الكاتب السياسي قاسم قصير لـ”اندبندنت عربية”، إن “الانتخابات لها بعد سياسي وليست مجرد عملية انتخابية، والدستور يسمح باستخدام قاعدة الخروج من البرلمان لتعطيل النصاب”. ويضيف أن “الحزب يدعو إلى الحوار، ولا يدعو إلى فرض مرشح معين، كما أنه يدرك أن لا خيار أمامه إلا بالذهاب إلى تسوية، ولا تسوية على حساب المسيحيين أو المسلمين”. ويتابع قصير “المعارضة أيضاً هددت بالانسحاب من البرلمان إذا انتخب فرنجية وهددت بتغيير النظام”. ويردف “الكل مسؤول ولا حل إلا بالتسوية والحوار”.
بدوره يرى الكاتب السياسي يوسف دياب أن “حزب الله يدعو إلى حوار، كلمة حق يراد منها باطل، بمعنى أنه لا يقبل إلا بمرشحه الرئاسي، ولا يقبل بخيار آخر، ويريد من المعارضة أن تأتي إليه لمحاولة إقناعها بمرشحه سليمان فرنجية. من هنا يأتي تصريح المعارضة أن البقاء في الفراغ أفضل من الإتيان برئيس تابع للحزب لأنه سيعمل على تمديد الأزمة إلى ست سنوات قادمة، وربما يأخذ البلد إلى كوارث أبعد من تلك التي وصلنا إليها خلال عهد ميشال عون، وهذا ما يجعل المقاربة بين الفريقين متباعدة إلى حد كبير”. ويعتبر دياب أنه “لا إمكانية للتفاهم مع الشريك وإن كان براغماتياً، ولكن عقيدته تعتبر أن لبنان جزء من المشروع الإيراني، وهذا ما ينعكس عند كل استحقاق دستوري من انتخابات الرئاسة إلى تشكيل الحكومات إلى الانتخابات النيابية بحيث لا يسمح لأحد من معارضيه الترشح. 27 نائباً من الطائفة الشيعية يتبعون لحزب الله وحركة أمل، ومن يتجرأ على الترشح ضدهما، يرهب، وصولاً إلى الضرب والتهديد بالقتل”.
تسوية إقليمية دولية
لكن يبدو أن الأزمة الرئاسية تخطت التنافس على الأسماء وذهبت إلى حد البحث عن صيغة جديدة للنظام اللبناني، وربما تمهد لتسويات سيعمل على إحداها الموفد الفرنسي، وفق ما قال مصدر سياسي لبناني لـ”اندبندنت عربية”، معتبراً أن المبادرة الفرنسية الأساسية التي طرحها ماكرون منذ سبتمبر (أيلول) 2020، وئدت في مهدها، ولا يمكن إيجاد مخرج للأزمة الحالية في ظل الانقسام العمودي في المشهد السياسي اللبناني، إلا بتسوية إقليمية دولية، تعيد الاعتبار إلى الاستحقاقات الدستورية وهيبة المؤسسات اللبنانية، أو توفير الظروف لحوار وطني يؤدي إلى انتخاب رئيس خارج الاصطفافات الحالية. من هنا سارع لودريان لتأكيد أنه لا يحمل مبادرة محددة، بل إصرار رئاسي فرنسي على المساعدة، وأنه سيقوم بزيارات أخرى للبنان.
ونقلت الصحافة اللبنانية عن مصدر دبلوماسي في باريس أن هناك شبه إجماع لدى عواصم القرار على استحالة إنجاز الاستحقاق الرئاسي وفق معادلة توافقت عليها باريس سابقاً مع “حزب الله”. وبحسب المعلومات فإن صفحة مرشح الحزب سليمان فرنجية قد طويت في ضوء نتائج جلسة الانتخابات الأخيرة، ولم تعد نقطة انطلاق المبادرة الفرنسية. وتأتي الاستحالة بحسب المصدر الدبلوماسي نتيجة الإجماع المسيحي على رفض فرنجية، وأن هذا الإجماع “لا يمكن تجاوزه”.
ويقول الكاتب قاسم قصير إن “الفرنسيين يحاولون الوصول إلى صيغة معينة للوصول إلى مخرج للأزمة اللبنانية. وعن اتهام المعارضة الحزب بتعطيل الانتخابات يقول “وفقاً لتجربة الحزب فإنه يعتبر أن تشكيل سلطة سياسية من دون التفاهم معه ومع حركة أمل وحلفائهما، يمكن أن يؤدي إلى تغيير اتجاه الوضع السياسي ومحاصرة المقاومة”، لكن “القوة ليست عسكرية دائماً، وإنما قد تكون بالكلمة”.
ويلفت الكاتب يوسف دياب إلى أن “المعارضة تعتبر أنها حتى لو أرادت التلاقي مع الحزب والذهاب إلى مساحة مشتركة معه فهو لا يريد تلك المساحة، كما يعمد عند كل استحقاق بوضع سلاحه على الطاولة، داعياً اللبنانيين إلى التفاوض. فإما الموافقة على خياراته أو الإخضاع بالقوة، أو ترك البلد ليتحلل وينهار”. وعن تخوف الحزب من “رئيس يطعن المقاومة في الظهر” يعتبر دياب أنه “إذا انتخب رئيس للجمهورية من أقصى المعارضة للحزب، فهل يستطيع التطرق إلى مسألة نزع السلاح؟ الحزب ممسك بمفاصل البلد فمن سيطعنه بالظهر”.
وأكد أن “الحزب يريد رئيساً موظفاً لديه، لا رئيساً موظفاً عند الشعب اللبناني ويدير مصالح الدولة. من هنا تخرج أصوات مطالبة بالفيدرالية أو التقسيم لاستحالة التوافق مع الحزب، وهذا الطرح بدأ يأخذ منحى واسعاً، وأصبح مبرراً لدى الناس، لأن ما يريده الحزب هو إعادة البلد إلى العصر الحجري، وإدارة شؤون الناس وفق خيارات أيديولوجية لا تستقيم لا في الداخل ولا في الخارج”. ويضيف دياب أن “البلد أصبح أمام خيارين، فإما تأتي قوة خارجية وتحكم البلد وهذا ليس متوفراً حالياً، أو تقوم دولة ما بإعادة إنتاج اتفاق الطائف بصيغة جديدة، إلا أنه بالمقومات الداخلية، مع هذا النظام المهترئ والمنظومة الفاسدة، لن تستقيم الأمور، ولن ينتخب رئيس”.