أي روسيا يريد الغرب؟
بقلم: د. سالم الكتبي
النشرة الدولية –
تحذيرات كثيرة يتداولها الغرب حول خطر روسيا المهزومة في أوكرانيا، ولكن الساسة الغربيين يشددون في معظمهم على «حتمية» كسر إرادة الكرملين في هذا الصراع، وفي مقابلة أجراها مؤخرا مع وكالة «بلومبيرج» قال وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر «إنه لا يجوز دفع روسيا إلى «العجز المهين»؛ لأن هذا قد يؤدي إلى عواقب يصعب التنبؤ بها، مشيرا إلى أن التفكير العسكري الذي يطغى على العلاقات الجيوسياسية بين الدول قد يحول النزاع الروسي – الأوكراني إلى مواجهة عالمية شاملة قد تنجذب إليها الصين ودول أخرى».
المشهد الأوكراني الآن يتسارع بشكل لافت ولكن بعيدا عن الإعلام في معظمه، حيث تتباهى روسيا بتدمير دبابات «ليوبارد» الألمانية التي حصل عليها الجيش الأوكراني مؤخرا، وتقول على لسان وزير خارجيتها سيرجي لافروف، إنها على استعداد للرد التقني والعسكري المناسب فور ظهور مقاتلات «إف -16» الأمريكية في سماء أوكرانيا.
الواقع يقول إن مشاهد الأسلحة الغربية المدمرة في غابات أوكرانيا تثير حفيظة العواصم الغربية أكثر فأكثر، وتعمق التوجه الغربي/ الأطلسي لتقديم المزيد من الدعم بهدف تعزيز فرص أوكرانيا في إلحاق الهزيمة – ولو جزئيا – بالجيش الروسي.
الهجوم الأوكراني المضاد الذي شغل الدوائر العالمية منذ أشهر عدة بدأ من فترة، وجاءت نتائجه الأولية على عكس توقعات الخبراء الأوكرانيين والغربيين، حيث تم تدمير عدد كبير من دبابات «ليوبارد -2» الألمانية، بواسطة المسيرات الروسية من طراز «لانسيت» الخفيفة، على الرغم من أن هذا النوع من المسيرات ليس مصمما لتدمير الدبابات، ويمكنها فقط ضرب المركبات المدرعة الخفيفة، ويمكنها حمل شحنات تفجيرية قد لا تزيد على 3 كجم، وتطير بمدى يصل إلى 40 كم وبتكلفة تصنيع زهيدة، وتلعب دورا تكتيكيا مؤثرا في ظل صغر حجمها وقدرتها على التحليق على مستويات منخفضة للغاية.
الحاصل الآن أن الحرب قد انتقلت في جانب كبير منها إلى صراع بين الأسلحة الروسية والغربية بكل ما يعنيه ذلك من دلالات على صعيد التوازن الاستراتيجي العسكري، ناهيك عن معدلات الموثوقية في الصناعات العسكرية، وما يرتبط بذلك من أمور تتعلق بالمبيعات والصفقات العسكرية، حيث مثل انتشار صور تدمير عدد من دبابات «ليوبارد -2»، ودبابات 10-AMX فرنسية الصنع، ومركبات قتال مدرعة من بينها «برادلي» الأمريكية، صدمة في الإعلام الغربي، ناهيك عما أحدثته التقارير الخاصة باستيلاء روسيا على دبابتين من طراز «ليوبارد -2» سليمة حيث سيتم نقلها إلى روسيا لدراسة أسرارها التكنولوجية والتعرف على مواطن قوتها وضعفها، وهو ما دفع بعض المراقبين للقول بأن الولايات المتحدة ستحجم عن السماح لأوكرانيا بإشراك دبابات «أبرامز» الأمريكية في القتال الدائر خشية أن يؤدي تدميرها إلى تداعيات كارثية على سمعة الصناعات الدفاعية الأمريكية، كما يتكهن البعض بأن ألمانيا قد تتراجع عن مواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا أو الحد من إرسال الأسلحة الحديثة على الأقل في ظل التدمير الذي تتعرض لها أحدث أسلحته على الساحة الأوكرانية بكل ما يعنيه ذلك من خسائر فادحة لسمعة السلاح الألماني، حيث تشير التقديرات إلى تدمير نحو 25% من الأسلحة الغربية، التي قدمت مؤخرا إلى الجيش الأوكراني.
الإشارة الأبرز التي تمهد لفشل الهجوم الأوكراني المضاد وردت على لسان وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي، الذي قال «إن هجوم قوات كييف المضاد لن يؤدي بالضرورة إلى نتيجة عسكرية سريعة أو حاسمة في أوكرانيا، وأن النزاع قد يستمر طويلا، وأن على الغرب الاستعداد لمواصلة دعم كييف».
شبح الفشل الأوكراني عسكريا قد يدفع الغرب إلى خوض مواجهة مباشرة مع روسيا، وهي فرضية بدأت تظهر تدريجيا في الغرب، وما يعزز هذه الفرضية أن هناك غيابا شبه تام للخيارات السياسية التي يمكن أن تقنع طرفي الصراع بالتفكير في مسار بديل، فضلا عن أن الخسائر الذي يتعرض لها الجيش الأوكراني مؤخرا تغري القادة العسكريين الروس بمواصلة الحرب للقضاء تماما على الدفاعات الأوكرانية وانتزاع نصر عسكري ثمين في مواجهة الدعم الغربي الهائل.
القيادة الروسية لن تسمح بهزيمة جيشها في أوكرانيا حتى وإن أدى الأمر إلى استخدام سلاح نووي، هذه الخلاصة هي موضع قناعة معظم الخبراء والمتخصصين، ومع ذلك يمضي الغرب نحو إلحاق هزيمة عسكرية بالجيش الروسي وكل أشكال الدعم المقدمة لأوكرانيا لم تفلح حتى الآن في تحقيق هذا الهدف ولم تقترب منه.
وبالتالي تدور الحرب في حلقة استنزاف مفرغة، والأمر لم يعد يتعلق بأوكرانيا وأراضيها وسيادتها الوطنية، بل بات يرتبط بشكل مباشر بقدرات حلف الناتو بعد أن أستدرج إلى تقديم دعم شبه كامل للجيش الأوكراني، ويرتبط كذلك بسمعة الأسلحة، الروسية والغربية، بتنوعها واختلاف وجهات تصنيعها، بكل ما يعنيه ذلك من مؤشرات نوعية لا يمكن تجاهلها، على صعيد الردع العسكري وموازين القوى الدولية، ناهيك عن سمعة الأسلحة ذاتها وقدرتها بالتالي على الاحتفاظ بأسواق مبيعاتها وانتشارها عالميا، والأهم من هذا وذاك هو ارتباط هذه الحرب برغبة تتنامى لدى الجانب الأمريكي في تحييد روسيا في الصراع القادم مع الصين، حيث يسود اعتقاد بأن هزيمة روسيا عسكريا تعني إطاحة بوتين واختفائه من المشهد السياسي الروسي، وربما دخول البلاد في مرحلة من الفوضى لن تفيق منها سوى بعد الانتهاء من حسم معركة قيادة النظام العالمي مع الصين.
الفخ الذي أفرزته هذه الحرب أن الغرب يدرك تماما خطر روسيا المهزومة، ولكنه يدرك بالمقابل توابع هزيمة أوكرانيا وتداعياته عالميا، وبين الفرضيتين تتأرجح خيارات الغرب التي يبدو أن الجميع يترك حسمها للظروف ومجريات الحرب على أرض الواقع.