الانتفاضة في فرنسا والمبادرة في لبنان
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
عندما يظهر أنّ “الانتفاضة” الحالية التي تواجه السلطات الفرنسيّة، ليست سوى “تكرار” لانتفاضات مماثلة شهدتها البلاد، في الأماكن نفسها، ووفق السيناريوهات نفسها، وللأسباب نفسها، يصبح من حق اللبنانيّين أن يطرحوا سؤالًا كبيرًا عن جدوى المبادرات الفرنسية تجاه “بلاد الأرز” وموقعها الحقيقي من الشعار الجميل الذي يتم اعتماده: الإنقاذ!
ما تمرّ به فرنسا، هذه الأيّام، من اضطرابات “حارقة” تحتوي على الكثير من مكوّنات “الانتفاضة”، ليس جديدًا، بل هو يتكرّر، بشكل دوري، منذ عام 1979 حين وقعت اضطرابات خطرة في إحدى ضواحي مدينة ليون.
ولم تنجح الطبقة السياسيّة الفرنسيّة، على الرغم من تناوب يمينها ويسارها، على السلطة في إيجاد حلول تحول دون تكرار هذه الاضطرابات المأساوية، بأسبابها ونتائجها وتداعياتها، على الرغم من اتساع المسافة الزمنية الفاصلة بين عامي 1979 و2023.
ولا يعود هذا الفشل الفرنسي إلى جهل بالأسباب التي تجعل هؤلاء الذين يشعرون بالتهميش ينتفضون وينقضّون على الممتلكات الخاصة والعامة وعلى كل ما يرمز إلى الدولة، بل إلى ما يسمّيه بعض “فلاسفة السياسة” في فرنسا باستراتيجية “شراء الوقت”، بحيث تكتفي السلطات، من أجل التخلّص من أعباء الانتفاضة، باعتماد حلول مرحليّة تقوم على جناحين: احتواء أمني، من جهة، وتوزيع الأموال، من جهة ثانية.
وبهذا المعنى، فإنّ السلطات الفرنسية، كما بيّنت التجارب الكثيرة، تعمل على “استرضاء المستائين” وليس على تجفيف مصادر الاستياء التي تنشئ، في كلّ مرحلة زمنيّة، جيلًا جديدًا يكرّر ما فعله هؤلاء الذين سبقوه وحلّ مكانهم!
ويعرف الجميع أنّ المجتمع الفرنسي يواجه “مزيجًا خطرًا” من المشاكل التي لا بدّ من الانكباب على معالجتها، مثل: الهجرة اللا إندماجية، سوء الخدمات العامة وتدني المستوى التربوي في المناطق “الصعبة”، البطالة، صعوبة ظروف العمل، العزل، العنصريّة، عدم فاعليّة القضاء في ظل النقص المتمادي في قدرة السجون الاحتوائيّة، تفشّي الجريمة المنظمة في “مدن ضمن المدن”، وخلاف ذلك من الأسباب.
وتنتج هذه المشاكل المتراكمة أجيالًا لا تقيم لسلطة الدولة أيّ اعتبار، وتؤزّم علاقاتها مع ممثّلي الجمهوريّة الأمنيّين والإداريّين والسياسيّين.
ويسمح هذا السلوك السلطوي “المتخاذل” و”الاسترضائي” لنوعين من أخطر أنواع السياسيّين بالاصطياد في الماء العكر: اليمين المتطرّف الذي يُغذّي في خطابه الغضب والعنصريّة والعرقيّة، واليسار المتطرّف الذي يخلق مظلّة لكل من يرى في السلطة القائمة عدوًّا لا بد من إطاحته!
وهذا النهج الفرنسي يقودنا إلى فهم المكوّنات التي تتّسم بها المبادرات التي تحملها السلطات الفرنسيّة الى لبنان، إذ يبدو واضحًا أنّ خلفيّتها الفعليّة تقوم على استرضاء “المشكلجي” على حساب “المسالمين”.
ففي مبادرة إيمانويل ماكرون، في خريف عام 2020، تمّت إزالة كل البنود التي أثارت استياء “حزب الله”، ومن ثمّ جرى، ومن أجل استرضاء “الثنائي الشيعي” قبل أيّ طرف سياسي آخر، تحويل حكومة الاختصاصيّين الإنقاذيّة إلى حكومة أقنعة.
وأنتج ذلك الكثير من الموبقات، بحيث تمّ استيعاب الحركة النشطة للمجتمع المدني، وتعويم الطبقة السياسيّة، وإهدار ما كان قد بقي من احتياطات “نادرة” في مصرف لبنان.
وفي السعي الفرنسي لاحقًا إلى ملء الشغور الرئاسي، اعتمدت السلطة الفرنسية “المبدأ الاسترضائي” نفسه، فكان قوام نهجها تبنّي سليمان فرنجية، ليس بصفته الشخصية، بل بصفته مرشح “الثنائي الشيعي” ومحاولة تسويقه، بالتهويل حينًا وبالدبلوماسيّة أحيانًا، على القوى السياسيّة الأخرى في البلاد.
وكما فعلت في المدن والضواحي الفرنسية فعلت السلطة الفرنسية في لبنان، فهي بدل أن تنكب على معالجة الأسباب المولّدة للمآسي المتكرّرة، وهي معروفة من الجميع، إذ تجد مكوّناتها الأساسيّة في قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بلبنان، عملت على استرضاء مسبّبي هذه المآسي ومكافأتهم، لعلّها بذلك تجذبهم إلى صفوفها، وتحقق، من خلالهم، انتصارًا مؤقّتًا ومنافع مرحليّة!
إنّ ما تشهده فرنسا في هذه الأيّام، كردة فعل على إقدام شرطي على قتل “الصبي المتمرّد” نائل، الجزائري الأصل، “سبقت مشاهدته”. بطبيعة الحال، لا تزال فرنسا تملك القدرة على احتواء ما حصل ويحصل، بغض النظر عن المدّة التي يمكن أن تستغرقها “الانتفاضة”، ولكن، بطبيعة الحال أيضًا، لا يستطيع الشعب اللبناني أن يتحمّل تكرار رؤية ما يعيشه، منذ خريف عام 2019، حتى يرى “المعادلات الفاشلة” في حلّ المشاكل، تنتقل إليه!