للمنادين بالفيدرالية في لبنان: هل نُجرب المجرب؟

النشرة الدولية –

لبنان 24 – نوال الأشقر –

تعاظم الحديث عن الفيدراليّة في لبنان في الآونة الأخيرة، على وقع استفحال الأزمة السياسيّة، والإنهيار الإقتصادي والمالي. الطرح ليس جديدًا، ولكنه خرج من الكواليس والصالونات إلى كافة المنابر الإعلاميّة وداخل الأوساط الشعبيّة، وإقيمت لأجله ورش عمل ومؤتمرات ومحاضرات وحلقات تلفزيونية، ورُسمت الخرائط ولُونت بألوان التقسيم والتوزيع الفيدرالي بين المذاهب. أصحاب الطرح يسوّقونه على أنّه علاجٌ للأزمة الحالية، على قاعدة أنّه نظامٌ معتمد في العديد من دول العالم، كسويسرا والإمارات العربية والولايات المتحدة الأميركية، علمًا أنّ إسقاط تجارب هذه الدول على لبنان ليس في محله، كون أصحاب الطرح يتبنّون صيغة فيدرالية طائفية، يتمّ بموجبها فصل للمكونات اللبنانية على أساس طائفي، على عكس البلدان التي يتمثلون بفيدراليتها.

داخل المجتمع اللبناني، آراءٌ منقسمة حيال جدوى الصيغة الفيدرالية، فمناصرو الفيدرالية يعتبرون أنّها أضحت ضرورة وخلاصًا من النزاعات السياسية والدستورية، لافتين إلى فشل التعايش بين الدولة والدويلة وهيمنة السلاح، والإختلافات الثقافيّة والاجتماعيّة بين مكونات البلد. اما رافضو الطرح  فينطلقون من أنّ المشكلة في لبنان ليست ناتجة عن عدم قدرة الطوائف على التعايش، وأنّ تشكيل كانتونات مناطقيّة لا يشكّل حلًا للأزمات المتتالية في لبنان، وأكبر دليل على ذلك، الصراعات الدمويّة عبر التاريخ بين المكونات الطائفية والمذهبية نفسها، في حروب أهليّة أنهكت البلد، والشواهد كثيرة.

رغم اتساع دائرة المنادين بالفيدراليّة، هناك العديد من النخب الفكرية على مساحة الوطن تحذّر في كتاباتها وأبحاثها مما تسميه أوهام الفدرلة، ومخاطر إسقاط تجارب دولية على الصيغة اللبنانية، عبر تسويق نسخة مشوّهة عن النظام الفيدرالي، قائمة على كانتونات طائفيّة، وترويجها في الداخل على أنّها حلّ للمأزق السياسي والمالي. علمًا أنّ المشكلة في البلد ليست طائفية، بل سياسية، تستخدم الأبعاد الطائفية في أدائها، بما يخدم مصالحها.

الخوري: الطائف إنجاز

الباحث والإكاديمي، أستاذ الماجستير في مقررات الإقتصاد والتمويل في جامعة بيروت العربية، ونائب رئيس الجامعة اللبنانية الألمانية سابقا البروفسور بيار الخوري، يرى أنّ ما نواجهه من أزمات ليس بفعل النظام الذي أرساه اتفاق الطائف، بل بسبب عدم تنفيذه، معتبرًا في حديث لـ “لبنان 24” أنّ العقل الذي بُني به اتفاق الطائف يمثّل أعظم إنجاز، مرسيًا صيغة تراعي كلّ الطوائف، من خلال أمرين، الأول تحويل السلطة إلى مجلس الوزراء مجتمعًا، والثاني اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة، التي تشكّل بوابة التنمية في توزيع موازنة الدولة، بما لا يحابي فئة على أخرى.

الخوري لفت إلى أنّ أيّ نظام سياسي يجب أن يؤمّن هدفين، حسن التمثيل وتعزيز موقع الدولة في النادي الدولي. ولبنان شهد في حقبات متعددة، اشكالًا من السلطة السياسية منذ العثمانيين إلى دولة لبنان الكبير، والإستقلال وما عُرف بصيغة 43 واتفاق الطائف “هذه الصيغ كانت تتطور بناءً لفرضية حسن التمثيل، رغم الكلفة العالية، قبل الحرب كان يشعر المكوّن المسلم بأنّه مغبون، أتى الطائف وانصفه، ولكن طريقة تطبيقه واغفال الجوانب التنمويّة فيه، كعدم تطبيق اللامركزية الإدارية، قلب المعادلة وخلق هواجس لدى المكّون المسيحي، وعندما ذهبنا إلى محاولة تطويره، كان هناك اتفاق الدوحة الذي يمثّل أسوأ نسخة مما يمكن أن يكون عليه اتفاق الطائف، بحيث حوّل الطوائف إلى مجلس أمن في دويلات لبنانية، من خلاله أضحى لكل طائفة حق الفيتو بوجه الطائفة الثانية، وتحوّل لبنان إلى بلد يحكمه مجلس أمن الطوائف، فشُّل اتفاق الطائف، وخسر كلّ إيجابياته”.

الفيدرالية وتوزيع الثروات في لبنان

أبعد من النقاش الدستوري والسياسي في جدال الفيدرالية، هناك علامات استفهام حول المنحى الإقتصادي التنموي. تنصّ الصيغة الفيدرالية على وجوب أن تتمتع كلّ ولاية ضمن الدولة الفيدرالية بإستقرار إقتصادي وتوزيع عادل للثروات، لكن من يضمن تطبيق هذه الصيغة في لبنان؟ وكيف يمكن  خلق معادلة إقتصادية عادلة بين جميع الولايات المفترض إنشاؤها، وكيف يمكن تقسيم الثروات بين مناطق ساحلية تتضمن مرافىء وأخرى داخلية؟ أكثر من ذلك من يضمن توزيع عائدات النفط والغاز في المستقبل على كل الولايات؟

وفق الخوري، أيّ اتجاه نحو التفتيت لا بدّ وأن ينعكس على الآليات الاقتصادية، ويؤدي إلى العزلة عند نشوب أيّ نزاع بين الأقاليم الفيدرالية “على سبيل المثال المطاعم والمنتجعات السياحية في كسروان وجبيل والبترون لا تستقطب أهالي هذه المناطق، بل يقصدها سياح من كافة المناطق اللبنانية من الشمال الى الجنوب، وهذا ينطبق على كلّ منطقة في لبنان تمتاز بخدمة أو إنتاج معين. ماذا لو ذهبت الأمور في المنطقة إلى نزاع مذهبي وطائفي في مرحلة من المراحل، ما الذي يحصل في هذه الأجزاء الصغيره من البلد التي تفترض أنّها القادرة على العيش وحدها؟ ما الذي يحصل بفنادقهم وزراعتهم وصناعتهم في حال واجهت مقاطعة لأسباب طائفية؟ الفدرلة المطروحة بصيغتها الطائفية لا يمكن إلا أن تنتج تطرفًا وعزلة. وبرأيي الأكثر حماسة للفدرلة هم أكثر من يدفع أثمان هكذا طروحات”.

الحل باللامركزية الإدارية

إذا كان من جهد يجب أن يتركّز لتطوير النظام الحالي فهو الذهاب نحو تطبيق اللامركزية الادارية، كما نصّ عليها اتفاق الطائف، بحيث يتمّ البقاء في دولة مركزيّة وليست مفتتة، تقوم على عدالة التمثيل والمصلحة الوطنية، يلفت الخوري “أما الصيغ الفيدرالية في العالم، من الإتحاد السوفياتي إلى الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية وحتّى الإمارات العربية التي لديها خصوصية، كل هذه الصيغ يستحيل إسقاطها على لبنان، الذي يبنى على منحى بين طوائفه قائم على المصالح المشتركة. كما أنّ هذه الدول لم تصل إلى صيغة الفيدرالية إلّا بعد حروب، كلفتها مئات الألوف وملايين الضحايا، هل يستطيع لبنان أن يدفع المزيد من الأثمان لتغيير نظامه السياسي؟  وصلنا إلى الطائف بعد حروب مدمّرة، وهو صيغة تضم الجميع ويقبلونها، فلنذهب إلى حسن تطبيقه لأنّه باعتقادي لا زال الصيغة الوحيدة التي تضمن بقاء لبنان، فهو نظام سياسي وتنموي ومع تطبيق اللامركزية لا يمكن ان نجد أفضل منه، والبديل الذهاب إلى حروب متناسلة في بلد ليس لديه حد أدنى من المناعة”.

صحيح أنّ النظام الحالي أثبت عدم قابليته للإستمرار، ولكن الصحيح أيضًا أنّ لبنان شهد نموذجًا من الفيدرالية أبان الحروب، فكان هناك حكومتان ومنطقتان مسيحية وإسلامية، هل نجحت تلك التجربة؟ أم انفجرت المناطق واندلعت حروب داخلها بين المكوّن الواحد؟ هل نعيد التجربة الفاشلة؟ الا يكفينا ما دفعناه من أثمان؟

زر الذهاب إلى الأعلى