أوكرانيا تفجر تمرد بريغوجين
بقلم: طوني فرنسيس

رئيس "فاغنر" أراد موقعاً في السلطة فأنهى دوره الروسي

النشرة الدولية –

يصعب الاقتناع بأن مشكلة “طباخ بوتين” مع وزير دفاع الرئيس الروسي سيرغي شويغو ورئيس أركانه فاليري غيراسيموف هي التي دفعت يفغيني بريغوجين إلى قيادة قواته في “فاغنر” لاحتلال قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية في روستوف، ثم التوجه شمالاً إلى موسكو لاحتلال وزارة الدفاع قبل الانتقال في زيارة ودية إلى مكتب الرئيس الروسي بالكرملين.

ويصعب الاقتناع في المقابل بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كان شاهداً على هجمات بريغوجين المتكررة على وزير الدفاع منذ بدء المراوحة في الحرب الأوكرانية، قرر الوقوف على الحياد بين جيشه ومرتزقته، آملاً الاستفادة من صراع الديكة في حديقته وإجراء التطهيرات اللازمة في الوقت المناسب بهدف تعزيز موقعه وسلطته على رأس الاتحاد الروسي.

لقد تخطت أحداث الـ 24 من يونيو (حزيران) الماضي كل هذه التقديرات، وفهم بوتين الأمر على حقيقته وهو أنه ببساطة محاولة انقلاب تقوم بها ميليشيات خاصة أشرف على تأسيسها ورعايتها، واستعملها ذراعاً غير رسمية في توسيع نفوذ موسكو داخل الشرق الأوسط وأفريقيا، وجندها في حرب أوكرانيا ابتداء من ضم القرم عام 2014 لتصبح قوة بارزة في المعارك على الأرض بعد انطلاق الهجوم الروسي في فبراير (شباط) العام الماضي.

لقد كبر الذئب الذي رباه بوتين على مدى الأعوام الماضية وبات حاضراً في سوريا وليبيا والسودان ومالي وأفريقيا الوسطى وموزمبيق وفنزويلا وبوركينا فاسو ومدغشقر.

ففي ليبيا بات لاعباً أساسياً منذ خريف عام 2019 يدعم الجنرال خليفة حفتر ويقيم في قاعدة الجفرة الجوية التي منها ينطلق إلى جهات أفريقيا الأخرى، وإلى مالي حضر 1000 عنصر من مقاتلي “فاغنر” ليحلوا محل الفرنسيين وفي قواعدهم دعماً للانقلابيين، وفي أفريقيا الوسطى تحضر “فاغنر” منذ 2017 وتوسع نشاطها في مجال تجارة المعادن والأخشاب والفودكا، وهو ما تفعله في السودان إلى جانب “قوات الدعم السريع” التي تضع يدها على مناجم ذهب دارفور، وتفعل أشياء مماثلة في سوريا في حقول النفط والفوسفات منذ بداية التدخل الروسي الرسمي في هذا البلد قبل ثمانية أعوام.

كبر حجم الذراع العسكرية غير الرسمية للكرملين وتوسع كثيراً، وفي الحرب الأوكرانية بدا دورها أساساً في معارك مفصلية آخرها معركة باخموت، وخلال هذه الحرب ارتفع صوت الطباخ في إدانة القيادة العسكرية الروسية الرسمية، ولم يصل إلى المساس ببوتين شخصياً لكن رسائله النارية كانت تستهدفه فعلياً.

بقي الرئيس صامتاً وأجرى تعديلات بقيادة القوات المقاتلة في أوكرانيا، لكنه لم يمس سلطة وزير الدفاع ورئيس الأركان، ومع غرق القوات في وحول حرب كان مقدراً لها أن تنتهي في أيام، ازداد الاعتماد على مرتزقة بريغوجين وعليه شخصياً، فحضر إلى الجبهات وأعلن ضحاياه وزاد في وتيرة انتقاداته من دون استجابة.

شعر الطباخ أنه شخصياً مرتزق لا قيمة له على رغم كل ما يجنيه، وكان يرى رمضان قديروف كيف يقدم نفسه قائداً في الجبهات تلحقه الكاميرات ثم يعود لعرينه في الشيشان، بينما هو يبقى عسكرياً من دون لقب ومهمته أن يقاتل ويقتل في مقابل مليار دولار سنوياً من الدولة الروسية، وإتاوات وأرباح تجبى من مناطق النفوذ الخارجي.

المراوحة في الحرب الأوكرانية هي على الأرجح الصاعق الذي فجر الخلاف بين بريغوجين وموسكو، وجعلته يحرك قواته في اتجاه العاصمة في استعادة لحدثين وقعا في التاريخ نفسه والمكان عينه، في الـ 24 يونيو عام 1812 عندما تحرك نابوليون بجيوشه الفرنسية نحو موسكو ليهزم لاحقاً، ومن روستوف انطلق القوزاق قبل 200 عام في ثورتهم ضد الإمبراطورة كاترين العظيمة.

الطرفان الفرنسي والقوزاقي قاتلا وهزما، لكن مفاجأة بريغوجين أنه توقف فجأة وانسحب من دون قتال فعلي بعد وساطة لوكاشينكو حليف بوتين على رأس بيلاروس، ومفاجأة بوتين جاءت في تسامحه مع طباخه الانقلابي الذي كاد يدخل روسيا في حرب أهلية داخلية، فيما كان ولا يزال يعاقب منتقديه ومعارضيه غير المدججين بالسلاح بالسجن والنفي وكبت الآراء.

لم يعاقب بوتين قائد التمرد ولا أتباعه واكتفى بإرسالهم إلى أرض حليفه لوكاشينكو، وعرض على أعضاء “فاغنر” نقل عقودهم إلى وزارة الدفاع أو الخروج إلى منازلهم، فيما لم يتحدد مصير “فاغنر ” بوضوح.

وفي بيلاروس يتحدثون عن استضافتها في معسكرات بضواحي مينسك بقيادة بريغوجين الذي انتقل إليها بموجب الاتفاق مع موسكو، وقد يكون الاتفاق نص على إنهاء الدور القتالي الخاص للشركة، كما يسميها الكرملين، في الحرب الأوكرانية، أي في الداخل الروسي، لكن ماذا عن دورها في الخارج؟

يقول سيرغي لافروف إن عمل “فاغنر” مستمر في مالي وأفريقيا الوسطى، فإذا كان ذلك صحيحاً فإنه يعني أنها ستواصل عملها في دول أخرى مما يفرض بقاء صيغة “الشركة” دوراً وهيكلية قيادية، وربما استمرار بريغوجين على رأسها إلا إذا ارتأى بوتين أمراً مختلفاً، فسيلقى الطباخ مصير منشقين آخرين ويؤتى بقيادة أكثر ارتباطاً بالكرملين وجهاز السلطة واستخباراته.

كانت إيران الأكثر قلقاً من بين الدول القريبة لموسكو إثر تحرك “فاغنر” نحو العاصمة الروسية، وهي الوحيدة التي تخطى إعلامها التفسير الروسي الرسمي لما جرى ليتهم حلف الأطلسي بتدبير مؤامرة ضد استقرار روسيا، لكن الاهتمام الإيراني الفعلي ينصب على مستقبل الدور الروسي في سوريا وكحليف مقرب وضروري في سياق مواجهة القيادة الإيرانية نفسها لخصومها في الداخل والخارج.

كانت ” فاغنر” تنظيماً مماثلاً للتنظيم الذي تعتمده إيران في تمددها الخارجي، وهي تلعب في سوريا دور الميليشيات الروسية غير الرسمية، وتملأ فراغات تضع الميليشيات الإيرانية عينها عليها.

سارعت القيادة الإيرانية من خلال اتصال الرئيس إبراهيم رئيسي والوزير عبداللهيان بنظيريهما الروسيين إلى تأكيد الوقوف إلى جانب الكرملين، وأوفدت إلى موسكو قائد الأمن الداخلي أحمد رضا رادان ليبحث مع قائد الحرس الوطني الروسي، الذي تأسس رداً على احتجاجات عام 2016، فيكتور زولوتوف العلاقات بعد التمرد.

وتحدث بعض الإعلام الروسي عن عرض إيراني بالمساعدة، لكن صحيفة “نيزافيسيمايا” الروسية قالت إن “من المشكوك فيه أن إيران يمكن أن تفعل أي شيء للمساعدة، ومن الناحية التقنية فالإيرانيون مجهزون أسوأ من الروس”، وسيحتاجون إلى معدات تقدمها روسيا تستعمل في قمع الاحتجاجات الداخلية.

لم تنته مفاعيل وارتدادات ما جرى في الجنوب الروسي، ويجب انتظار بعض الوقت لتتضح الصورة الجديدة لأدوار بوتين وطباخه وشركته التي يرعاها الكرملين، وتأثيرات ما جرى في روسيا وموقعها في أوكرانيا والعالم، إلا أن الثابت هو اهتزاز صورة روسيا بشكل لم يسبق له مثيل منذ انقلاب مطلع التسعينيات ونهاية الاتحاد السوفياتي رسمياً.

زر الذهاب إلى الأعلى