البعد الجيوسياسي لصراع الداخل الروسي
بقلم: وليد فارس

ما أقدم عليه بريغوجين كان تحركاً محسوباً ارتكز على سخط قواته وعواطف الشعب

النشرة الدولية –

عندما دخلت دبابات “فاغنر” محافظة موسكو الكبرى، وصلت روسيا إلى شفير حرب عسكرية داخلية هائلة، كانت لتغير وجه الأوضاع الجيوسياسية في العالم، لو لم يتوقف التقدم ويتم إنهاء ولفلفة الومضة الخطيرة التي وضعت وجهاً لوجه القوة الضاربة الخاصة للاتحاد الروسي وقوات الاتحاد المسلحة. العالم برمته صعق لحجم التحديات وسرعة التطورات، وبعد انتهاء تلك الجولة لا يزال غير متأكد لما سوف تؤول إليه الأوضاع الداخلية لدى هذه القوة النووية العظمى، فلا بدّ من تلخيص ماضي هذه التطورات غير المسبوقة واستشراف مستقبلها.

الجيش بعد الحرب الباردة

عند انهيار الاتحاد السوفياتي بعد انقلاب موسكو في أغسطس (آب) 1991، واجهت القوات المسلحة “الروسية” خلال عهد رئيس الاتحاد الروسي بوريس يلتسين تحديين استراتيجيين كبيرين، وهما أولاً تحديد التهديد القومي لروسيا، وثانياً تحديد الحدود القومية لروسيا التاريخية. الرئيس يلتسين بدّل عقيدة موسكو العسكرية من مواجهة مع الغرب إلى متعاونة معه، وقد وصل إلى حدّ طلب الانضمام إلى “الناتو”! لذا، فنزع فتيل المواجهة السوفياتية مع الولايات المتحدة و”الأطلسي” أجبرت الجيش الروسي أن يتخلى عما اعتبرته روسيا “أرضاً روسية” لأوكرانيا، بخاصة في دونيتسك والقرم، وشاهدت القوات الروسية معظم الساحل، في بحر آزوف والبحر الأسود، ينتقل إلى سلطة كييف بناء على اتفاق حلّ الاتحاد السوفياتي واستقلال جمهوريات أوكرانيا وروسيا، ولكن حكومات يلتسين طمأنت جيشها أن روسيا والغرب سيوحدان قدراتهما ضدّ الإرهاب ما سيغيّر الأولويات العسكرية، ولكن قيادات الجيش وأوساط القوميين الروس لم تثق لا بأوكرانيا ولا بالغرب، ولم يستعجل “الناتو” لاستقبال روسيا بين صفوفه في التسعينات، بل ركّز على إدخال دول أوروبا الشرقية أولاً، متجهاً إلى حدود روسيا تدريجياً من البلطيق إلى رومانيا ما أحدث ردة فعل من قبل العسكريين والقوميين والبيروقراطيين الذين تكتلوا لإيصال رئيس قومي إلى الكرملين فلاديمير بوتين.

رئاسة بوتين حاولت التقارب مع إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش منذ 11 سبتمبر (أيلول) لمواجهة “الإرهاب المشترك”، إلا أن وقوف إدارة الرئيس السبق باراك أوباما مع الحركات الإسلاموية المتطرفة خلال “الربيع العربي” وخطورتها على الأمن القومي الروسي، بالإضافة إلى ما اعتبرته موسكو تهديداً جيوسياسياً لكيانها في أوكرانيا بسبب تشجيع كييف للانضمام لـ “الناتو”، إلى ما هناك من تطورات أخرى، قلب سياسة الكرملين إلى موقع مقاوم للغرب ومتحالف مع الديكتاتوريات المواجهة لأميركا. فغيّر الجيش الروسي عقيدته من جديد باتجاه “استرجاع الأراضي الروسية” ومواجهة المتطرفين، ولكن مع القوميين المتشددين في دول أخرى، ما دفع بموسكو إلى أن تجتاح القرم في 2015 والانتشار في سوريا لمحاربة “الدواعش” والميليشيات “الإخوانية” بالتحالف مع حكم رئيس النظام السوري بشار الأسد، وبدأ تنسيق عسكري مكثف مع إيران والصين، وأطلقت شركة “فاغنر” الأمنية كذراع خاصة للدولة الروسية للقتال خارج حدودها.

“إمبراطورية فاغنر”

وبينما ركّز الجيش النظامي على بناء قواه على الأراضي الوطنية وشنّ حملات عسكرية واسعة ضد أوكرانيا وفي سوريا، تخصصت قوات “فاغنر” في قتال “الأخطار” البعيدة في دول أخرى، فنشرت قوات خاصة، كما تفعل أميركا وفرنسا في قارات عدة من بوركينا فاسو، إلى مالي، إلى أفريقيا الوسطى، وفي دول أفريقية أخرى، وصولاً إلى ليبيا، وتشارك في تدريب قوات في دول أميركا اللاتينية وآسيا، والمثير للاهتمام أن “فاغنر” ليست فقط ميليشيا تعمل تحت غطاء شركة أمنية قوية، ولكن هي باتت شركة استثمارات وتجارة دولية، وتحولت إلى إمبراطورية أمنية – مالية واسعة، وحركتها القيادة العليا لكي تنفذ سياسات موسكو الميدانية في العالم، حيث يصعب استعمال مؤسسات الدولة الرسمية، فهي باتت جيشاً خاصاً موازياً كذراع استراتيجية للرئيس بوتين.

“فاغنر” ووزارة الدفاع

في مرحلة أولى كان التعاون بين وزارة الدفاع ومتعاقدي “فاغنر” جيداً ومتكاملاً، لأنه ينفذ أوامر القيادة العليا في الكرملين، فكانت تحصل “فاغنر” على أي دعم لوجستي أو ديبلوماسي تريده من الدفاع والخارجية والاستخبارات، وكانت أجهزة الحكومة تحصل على دعم “فاغنر” في الأمور الخاصة والسرية وعلى “جبهات بعيدة”، واستمر التعاون بين وزارة الدفاع والشركة الأمنية مع انتشار وحدات “فاغنر” في سوريا لمؤازرة القوات الروسية والحكم السوري، ومع نجاحات الشركة المستمرة في دول عدة، حصلت على دعم أكبر من رئاسة الدولة في موسكو ما خلّف بعض التسابق مع وزارة الدفاع، ولكن مع اجتياح أوكرانيا في شتاء 2022، وصولاً إلى ضواحي كييف، عاد “المجد المعنوي” لوزارة الدفاع التي “حررت أراضي روسية” ما سمح “بإعادة ضمها إلى الوطن الأم”، إلا أن القوات النظامية بدأت تتراجع إلى الوراء وتخسر مساحات سيطرت عليها في الشمال والوسط والجنوب، ما أزعج الكرملين أمام الرأي العام الروسي.  ومع أن “فاغنر” قد كلفت بعد مهام خلال أول سنة من الحرب، إلا أنها كانت تتحرك تحت مظلة وزارة الدفاع.

ومع اقتراب القوات الأوكرانية من مناطق الناطقين بالروسية في الشرق، وباتجاه القرم، شعر الكرملين أن سقوط تلك المناطق الحساسة سيشكل ضربة معنوية كبيرة، وبالتالي، اتخذ قرار تسليم يفغيني بريغوجين قائد “فاغنر” جبهات داخل دونيتسك، بما فيها مدينة باخموت، ليشنّ هجوماً مضاداً بقواته الخاصة ويدفع بالقوات الأوكرانية إلى الوراء، ولأشهر، تلقت “فاغنر” ما طلبته من وزارة الدفاع وصمدت في باخموت مع خسائر عالية، ونجحت في إزاحة الجبهة لصالح روسيا شيئاً ما، بينما كييف تتلقى أسلحة متطورة من “الناتو”، ولكن مع مرور الأسابيع، شعرت قيادة “فاغنر” أنها لم تعد تتلقى السلاح والذخيرة بشكل كاف من القيادة في موسكو، وذهب بريغوجين إلى حدّ اتهام وزارة الدفاع بمنع الذخيرة عن قواته، واتهم مسؤوليها بقصف قواته في باخموت، فانفجرت أزمة قوية بين قيادتي الدفاع و”فاغنر” لأسابيع، ولم يحسن الكرملين حسمها، فالجيش أساسي لبوتين و”فاغنر” أنقذت الوضع على أرض المعركة، وعدم الحسم الرئاسي أدى إلى ممنوعات خطيرة داخل روسيا.

حرب أهلية عسكرية؟

كثيرون في الغرب اعتبروا أن تحرك هذه المجموعة الميداني داخل روسيا انطلاقاً من روستوف باتجاه موسكو كان انقلاباً عسكرياً بكل المعنى التقني للعبارة، لكن التطورات العميقة لم تكن بهذه البساطة، وبالطبع، القصة لم تنتهِ بعد، فما أقدم عليه بريغوجين كان تحركاً محسوباً ارتكز على سخط قواته وعواطف الشعب الروسي، وكانت فيه معادلات معقدة جداً، وبحسب التحليل التقييمي، شعر بريغوجين أن أخصامه قد أضعفوا ثقة بوتين به من خلف ظهره بينما هو منهمك بإدارة القتال على الجبهة، وربما خلص قائد “فاغنر” إلى أن كبار قادة وزارة الدفاع يسعون إلى تغيير قيادته وصولاً إلى سحب هذه المجموعة وربما حلها، ليس هناك من رواية نهائية ولكن الجرة انكسرت بين الطرفين.

فأطلق بريغوجين تحركه داخل روسيا متقدماً من الجنوب باتجاه العاصمة، وتبيّن أمران، الأول أن حجم قوات “فاغنر”، إذا وقعت حرب عسكرية داخلية، لن يسمح لها “باحتلال” روسيا الهائلة، لذا فالطريقة الوحيدة للسيطرة بالنسبة لبريغوجين هي أن تلتحق به وحدات وقطاعات، وهذا لم يحدث، وفي المقابل، أبدت غالبية قيادات القوات الروسية في الداخل أنها لن تقاتل “فاغنر”، فنتيجة أي صدام هي خسارة الحرب في أوكرانيا، وكأن كل القوات العسكرية في روسيا، نظامية كانت أم خاصة، هي التي انقلبت على الطرفين وفرضت منع أية حرب داخلية، وبالتالي، فرضت على الكرملين ووزارة الدفاع و”فاغنر” أن تجد حلاً معيناً، وقد طلب من رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشنكو أن يلعب دوراً مدبر الحل، قوات “فاغنر” تعود إلى ساحة القتال في أوكرانيا، وقيادة الشركة تنتقل إلى “روسيا البيضاء” وتستمر كل الأطراف بلعب دورها في هذه الحرب.

أما مستقبل العلاقات بين وزارة الدفاع و”فاغنر” فسنتوقف عليه في مقال آخر.

Back to top button