«نائل» وانتفاضات الضواحي
بقلم: حمزة عليان
النشرة الدولية –
الجريدة الكويتية –
معظم الحروب والثورات والانتفاضات تبدأ «بشرارة»، لذلك لن يكون كافياً التوقف عند حادثة مقتل الشاب «نائل» الفرنسي الجنسية الذي لا يتكلم اللغة العربية، وإن كان ينتمي إلى أصولها.
أمامنا قصة «البوعزيزي» في تونس و«خالد سعيد» في مصر، وهما يرمزان إلى ثورات الربيع العربي وما وصلت إليه، وحادثة «البوسطة» في منطقة «عين الرمانة» في بيروت عام 1975 وما تبعها من حرب أهلية امتدت نحو 15 سنة لتتوقف عام 1990.
لنبحث عن الخلفيات والتراكمات التي أدت إلى هذا الهيجان غير الطبيعي وتدمير الأملاك العامة والخاصة وبطريقة همجية بسبب مقتل شاب في مقتبل العمر، لم يشكل خطراً على أفراد الشرطة لكي يبادروا بقتله عمداً، كما أفادت النيابة العامة في التحقيقات الأولية.
الاختلافات في التحليل تعكس حالة التعصب والانقسام داخل فرنسا وخارجها، ولعل حملة التبرعات التي قادها مؤيدون لدعم أسرة الضحية الشاب نائل وصلت يوم 2/7/2023 إلى 71 ألف يورو، مقابل حملة مضادة تبناها مناصرون للشرطي القاتل وصلت إلى 400 ألف يورو! مما يعكس المأزق الاجتماعي والهوية الوطنية للجمهورية الفرنسية.
وبالرغم من أن مدينة «نانتير» الواقعة غرب باريس، التي تعيش فيها أسرة «نائل» تعد من المدن النابضة بالحياة والمعروفة بسحرها الأخاذ وأبراجها الباريسية ومعالمها السياحية وبكونها مقراً للعديد من الشركات الكبرى، فإن المهاجرين والقادمين إليها يشكلون نسبة 25% موزعة على ثلاثة كانتونات، مما يعني أنها لا تدخل ربما في حزام الفقر الذي يلف العاصمة باريس وبعيده عنه.
البعض أطلق على ما حدث بأنه يشبه ما شهدته فرنسا عام 2005 «انتفاضة الضواحي»، أي تلك المجاميع المهمشة والمقيمة ضمن «غيتوات» تشعر بالعزلة وعدم قبولها أو اندماجها في المجتمع الأصلي، وقد تتكرر تلك المشاهد مستقبلاً إن لم تتم معالجة هذه الظاهرة.
ربما كانت «ضواحي طهران» خير مثال، يوم ذهب الشاه محمد رضا بهلوي ليقيم احتفالات «برسيبوليس» المذهلة عام 1971 وكانت من الأسباب الرئيسة للإطاحة بعرشه بعدما كشفت الصحافة الغربية في حينه عن «الوجه المخفي والمخيف» لحالة الفقر التي يعيشها «سكان الضواحي».
الوجه الآخر للأيام المحزنة لفرنسا يكمن في صراع الهوية، وقد يكون اليمين المتطرف والشعبوي المكتسح لساحات المواجهة والرأي العام وفي بلدان أوروبا الغربية، من التراكمات المتوالية والمؤدية للانفجار الشعبي الذي رأيناه على شاشات التلفزة منذ أيام.
انتفاضات «ضواحي المدن» ليست من القضايا العابرة أو الظواهر السطحية، بل هي في عمق المشكلة وإن ظهرت بصور مختلفة تبعاً للدولة والمجتمع الذي تنفجر فيه، فضواحي بغداد على سبيل المثال شكلت الخزان البشري للقوى الدينية واليسارية المتطرفة التي تم تجييشها واستخدامها ضد النظام والسلطة الحاكمة لأنها وببساطة أفضل بيئة يمكن استغلالها نتيجة الحرمان وسوء الخدمات وضعف التعليم وانتشار البطالة وغيرها من أوجه التقصير والتهميش التي تعانيها.
بيروت لم تكن استثناء من الظاهرة، فقبل الحرب الأهلية وما بعدها كانت الضواحي الأرض الخصبة للثورات والانتفاضات والتمرد وأعمال العنف، والمعاصرين لمرحلة الشهيد رفيق الحريري يتوقفون عند مشروعه التعليمي الذي وصل في سنواته الأخيرة إلى قرابة 35 ألف لبناني مبتعثين إلى أهم الجامعات في العالم وعلى حسابه الخاص لتلقي التعليم العالي ومن كل الطوائف وغالبيتهم من أبناء الضواحي، ولو سمح له بالاستمرار في هذا المشروع لكان باستطاعة هؤلاء تغيير وجه الضواحي ولبنان بشكل عام والمنطقة العربية.
القاهرة أيضاً عرفت بالعشوائيات وسكان المقابر، لكن الصورة تغيرت تماماً في عهد الرئيس السيسي الذي تعهد بمسحها من الخريطة بعدما شكلت بؤراً للفقر والبطالة والمشردين والهاربين.
هناك من ألقى باللوم على المجنسين، وكما فعل رجل الأعمال الإماراتي خلف الحبتور، معتبراً إياهم «الآفة المضرة للمجتمعات، فكم من أحداث واضطرابات وتخريب وفوضى تسببت بها زمر تحمل هوية تلك الدول ولكن لا انتماء وطنيا إليها».
الحقيقة أن التعميم في حالات كهذه سيوقعنا في المحظور، وسيؤدي بنا إلى طريق مسدود، فهناك بلدان نهضت بالمهاجرين الجدد إليها والمجنسين، كالولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا، فهذه دول وفرت بيئات صالحة، وطبقت قوانين صارمة على الجميع، وساوت بين المواطنين، ومنحتهم فرصاً متساوية وفق نظام متكامل، ولذلك قضت على خلل جوهري عند تلك المجموعات، وجعلتهم في قالب واحد أدى إلى اندماجهم كلية بالدولة والنظام، وعزز في نفوسهم وتربيتهم قصة الولاء والانتماء.