الغد الفرنسي
بقلم: سوسن الأبطح
النشرة الدولية –
الشرق الأوسط –
حتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غير مصدّق بأن أعمال العنف انتهت في بلاده، وإن هدأت، بعد خمسة أيام من الشغب، أحرقت خلالها خمسة آلاف سيارة وما لا يقل عن ألف مبنى، بينها مدارس ومكتبات وقاعات رياضية، وبلديات، وسرقت محلات تجارية واعتُدي على رؤساء بلديات. ثمة اقتناع بأن ناراً تحت رماد، وأن الآتي لن يكون سهلاً.
تسمع تشخيص ماكرون لأسباب الغضب، تظن أنه رئيس من العالم الثالث، يتهم وسائل التواصل المحرضة، يتحدث عن تأثير عنف ألعاب الفيديو، وما توحيه للمراهقين من رغبة في تقليدها، يهدد الأهالي بمعاقبتهم؛ لأنهم يتركون أطفالهم في الشوارع بعد منتصف الليل يعيثون فساداً. وكله صحيح في جانب منه إلا أن القضية أكبر، والشرخ يزداد عمقاً.
فرنسا تغيرت ديموغرافيتها بمرور الوقت. الدول الاستعمارية لم تتمكن من إغلاق أبوابها، حين بدأت تشعر بالخطر. فهي إن توقفت عن استقبال المهاجرين اختنقت وشلّت، وإن استقدمت اليد العاملة التي تحتاجها، انقلبت قيمها، وتحولت ملامحها.
تمشي في باريس، فلا تعثر على فرنسا التي كنت تعرفها قبل عشرين سنة. تستغرب أن ترى صناديق خضراوات معروضة أمام سوبر ماركت، ومحلات تبيع كل شيء وأي شيء في وقت واحد، من الحذاء إلى زجاجات النبيذ وأغطية الأسرّة، في جادة السان ميشال التي كانت مقصد الطلاب والمفكرين، وقِبلة الباحثين عن الإصدارات وأهم المكتبات.
كانت مشاكل شبان الضواحي مغلقة عليهم في أحيائهم، يغضبون ويحطمون ويتواجهون مع رجال الشرطة، وكأنهم لا يشكلون خطراً سوى على أنفسهم، صاروا يزحفون ويتمددون إلى وسط المدن. أصبحوا أصغر سناً، بينهم أطفال دون الثانية عشرة، وهم أسرع وأكثر خفة وشراسة وعناداً وإصراراً على التخريب.
لكن في فرنسا الغاضبون كثر، والمهاجرون ليسوا وحدهم المتحفزون للتظاهر والتعبير في الشارع. رأينا سلسلة من الموجات الاحتجاجية في السنوات الأخيرة. تابعنا «السترات الصفراء» ومن بعدهم مظاهرات المناهضين للتطعيم ضد «كوفيد»، والمحتجين على القناع، تلتهم موجة المعترضين على إصلاح نظام التقاعد، والراغبين في وقف مشروع أحواض تجميع المياه الجوفية في سانت سولين وسط وغرب فرنسا، لاستثمارها صناعياً، وهم بالآلاف، يريدون حماية البيئة من جشع الصناعيين.
وزير الداخلية جيرالد دارمانان اعتبر أن أقصى اليسار، كما اليمين المتطرف، يمارس عنفاً شديداً ضد رجال الشرطة. «أمر لا يوصف ولا يمكن التغاضي عنه». في سانت سولين عثر قبل التجمع الكبير على معدات خطيرة وأسلحة من كرات حديدية ومقالع ومواد حارقة وسكاكين وفؤوس.
العنف سياسي أيضاً وفرنسا منقسمة، والشرخ يكبر، بين من عمل على تبرئة الشرطي وشيطنة الطفل نائل، ومن شيطن الشرطي وأخرج المراهق مجرد ضحية، أجهز رجل الأمن عليها بوحشية.
هناك من جمع المال لمناصرة أهل الشرطي الذي أردى المراهق، الجزائري الأصل، نائل ( 17 عاماً) حين رفض الامتثال للشرطة. هؤلاء تمكنوا من جمع ما يناهز مليون ونصف مليون يورو، وهو ما أسماه البعض «صندوق الفخر»، وسماه آخرون «صندوق العار»، ولم يكن يتوقع أن يحصل هذا الفريق على أكثر من خمسين الفاً. أما من طلبوا مساعدة عائلة الشاب نائل، فلم يجنوا أكثر من 300 ألف يورو. علماً بأن من يرى مشاهد الغضب والثورة، والمباني التي تنهار حرقاً وتخريباً، وتسقط كأنها مصنوعة من البسكويت ويشاهد النيران، وهي تشبّ في السيارات في الأيام الماضية، يظن أن المدن وضواحيها كلها في رفض واحتقان.
فرنسا مصدومة وخائفة، وتتوجس من غدٍ لا يبدو سهلاً. لقد فعلت الحكومات المتعاقبة الكثير لمساعدة أهالي الضواحي، صرفت الملايين على مشاريع الإسكان والتعليم والرياضة والفنون والمواصلات، لكن هؤلاء يقولون إن حياتهم لم تتحسن، وفرص العمل ليست أفضل، ولا المدرسة تؤهلهم لنجاح أكبر. تبين أن ضاحية «سان دوني» في باريس كانت تزار من قبل هيئات وزارية كل يوم تقريباً في السنوات الماضية، في حرص على إبقاء الأوضاع تحت السيطرة.
لكن بما أن «الفقر يولد النقار» وثمة من أضاف الانفجار. فإن مشاكل الهجرة والإحساس بالاضطهاد تتصاعد بعد الوباء وحرب أوكرانيا والأزمات الاقتصادية. في المقابل يتنامى شعور بعض الفرنسيين بأنهم باتوا محاصرين بفئة جديدة من الناس لا تشبههم. والسياسة كما في أماكن كثيرة، لا ضمير لها ولا خلق، هي استثمار، غالباً، وانتهازية وتوظيف في المشاعر. والمأساة أن هذا الصنف من الاستغلال اللاإنساني الرخيص بات مبرراً للوصول إلى قلوب الناخبين والفوز في الصناديق حتى في الديمقراطيات العريقة.
جنون المحتجين في الأيام الفائتة وبشاعته، سيكون مبرراً لمزيد من التضييق، ولكلام أعلى في العنصرية والانغلاق، وسن القوانين المتشددة. مشاهد العنف لن تنسى بسهولة. والإجراءات الحاسمة لا بد أن تتخذ. وفي المقابل ثمة من سيشعر بأنه مستهدف للونه أو لأصوله.
فرنسا ضائعة بين نارين، شارك في التأجيج والتجييش في كلا الطرفين، سياسيون ووسائل إعلام وكتّاب، وانتهى الأمر بإحراق وتكسير وخسائر، ومزيد من الكلام العنصري، والقليل جداً من الحكمة والروية والتعقل.
سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.