مهرجان قرطاج بين القيود المالية وغضب الفنان التونسي

النشرة الدولية –

العرب – حنان مبروك –

ينتظر أهل الموسيقى في تونس سنويا برمجة مهرجان قرطاج الدولي، لينتقدوها ويعبروا عن آمالهم وانتظاراتهم منها، ويبدون مواقف تكشف في باطنها أزمة الموسيقى والذوق العام في تونس، وكذلك تعاملهم مع المهرجانات كحق مكتسب رغم عدم أهليتهم له.

 

في الوقت الذي تقول فيه المؤشرات العالمية أن العالم قبل جائحة كورونا لم يعد هو نفسه بعدها، بما في ذلك القطاع الثقافي، أكبر المتضررين من فترة الإغلاق، ويبحث العاملون فيه من فنانين ومهرجانات كبرى على التعافي من تداعياته المالية ساعين نحو مواكبة الثورة التقنية المتسارعة وانفتاح الأسواق وسهولة التسويق، لا تزال المهرجانات التونسية حبيسة الصراعات نفسها، مقدمة القيود المالية وقلة التمويل والدعم الرسمي كسبب لضعف برمجتها أو لتكرار الأسماء الفنية نفسها سنويا، فتبدو كمن يربط نقاط ضعفها بالآخر دون محاولة جدية للتطوير ومواكبة الحراك العالمي والبحث عن حلول ترويجية تضفي المزيد من التنويع على البرمجة وترضي أكبر قدر ممكن من الجمهور.

وقبل نحو أسبوع من انعقاد فعاليات دورته السابعة والخمسين عقد مهرجان قرطاج الدولي ندوة صحافية خصصت في مجملها للحديث عن مؤشرات وأرقام الدورة الماضية بحضور أهل الصحافة والفن، ومرت سريعا على برمجة دورة 2023، حيث كانت الإدارة قد نشرتها على صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي سويعات قليلة قبل الندوة وكأنها لم تعد تولي اهتماما بالمؤتمرات الصحافية، وهي تنظمها بهرجا يأتي بصحافيين يعلمون محتوى المهرجان ليناقشوه مع الإدارة ويستمعون لبعض الاعتراضات من فنانين “مظلومين” ثم يغادرون.

استهل المدير العام كمال الفرجاني كلمته بالإشارة إلى بعض النقاط التي تخص الدورة الفارطة للمهرجان، والتي اعتبرها دورة ناجحة بكل المقاييس كما عبّر عن رضائه على البرمجة وعلى الإستراتيجية التي اتبعها المهرجان في الدورة الـ56 من خلال عرضه لجملة من المؤشرات.

كمال الفرجاني: المهرجان يحافظ على هويته وخصوصيته وفلسفته الفنية كمال الفرجاني: المهرجان يحافظ على هويته وخصوصيته وفلسفته الفنية

وتطرق الفرجاني لمختلف تفاصيل الدورة الحالية للمهرجان، انطلاقا من المعلقة الرسمية المستوحاة من التاريخ القرطاجي ويرجى من خلالها التأكيد على أهمية التراث والتاريخ.

وبيّن مدير المهرجان أن هذه الدورة السابعة والخمسين تتضمن 15 عرضا تونسيا، 8 عروض عربية، 8 عروض من سائر بلدان العالم. وبالنسبة إلى العروض الحصرية فقد مثلت 88 في المئة من البرمجة كاملة وأما العروض التونسية فقد كانت 48 في المئة من إجمالي العروض.

وتؤثث سهرات الدورة الـ57 عروض من تونس والجزائر والمغرب وسوريا ومصر وفلسطين ولبنان وتركيا والكاميرون ونيجيريا والكوت ديفوار وغينيا الاستوائية وفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وجمهورية الصين الشعبية، وهي تتنزل في سياق رئاسة الجمهورية التونسية للمنظمة الدولية للفرنكفونية.

وقال إن “مهرجان قرطاج منذ تأسيسه سنة 1966 يعنى بالفن الموسيقي بنسبة 80 في المئة وبنسبة 20 في المئة ببقية الأنماط الفنية الأخرى من مسرح وكوريغرافيا”، موضحا أنه حافظ على خصوصيته وفلسفته وهويته.

وقال الفرجاني، في ندوة صحافية انعقدت بالمتحف الأثري بقرطاج، “نتوقع أن تبلغ الموارد الذاتية لهذه الدورة 3.940 مليون دينار (نحو 1.286 مليون دولار) منها 2.890 مليون دينار (934 ألف دولار) متأتية من بيع تذاكر السهرات و1.05 مليون دينار (340 ألف دولار ) متأتية من الاستشهار نقدا”.

وتوقّع مدير الدورة أن تبلغ نسبة تغطية المداخيل الذاتية لكلفة عقود الفنانين 111 في المئة، علما أن كلفة عقود الفنانين بلغت 3.564 مليون دينار (كمبلغ صاف) (1.15 مليون دولار) مقارنة بالدورة الماضية التي بلغت 72 في المئة و48 في المئة سنة 2019.

وأكد الفرجاني في كلمته على أهمية اللامركزية الثقافية، حيث سيكون مهرجان قرطاج الدولي ضيف المهرجان الدولي بالقصرين من خلال بعض العروض المبرمجة هذا إلى جانب استضافة مختلف الفئات العمرية من مناطق مختلفة بالبلاد منها جمعيات ومؤسسات عناية بالمسنين ونساء عاملات بالقطاع الفلاحي.

كما تحدث المدير عن السينوغرافيا الجديدة التي سيشهدها الجمهور خلال العروض في المسرح الأثري بقرطاج، منها مؤثرات ضوئية عالية الجودة ومؤثرات صوتية جديدة ومعاصرة تضيف رونقا خاصا وجديدا إلى المسرح الأثري.

من جهة أخرى، تحدث مديرة المهرجان عن الوضعية المالية للمهرجان، قائلا إنه لن يتم صرف أيّ أموال من خزينة الدولة في اقتناء عقود الفنانين حيث سيتم تغطيتها من المستشهرين ومن مداخيل التذاكر، نظرا إلى الوضعية المالية الصعبة التي تعيشها البلاد، موضحا أن التمويل العمومي سيخصص لتنقلات الفنانين وخاصة القادمين من خارج تونس.

وأشار إلى أنه في الدورة الماضية تم تحقيق ذلك وساهم المهرجان في تغذية خزينة الدولة بقيمة 400 ألف دينار ما يعادل 129 ألف دولار.

 

 

حضور ثقافي بارز
حضور ثقافي بارز

 

وأثبتت أرقام المهرجان أن الدورة السادسة والخمسين التي انعقدت العام الماضي سجلت إقبالا كبيرا على العروض العربية وفي مقدمتها حفلا الفنانين راغب علامة وناصيف زيتون، مع اعتبار أن الفنان التونسي صابر الرباعي الذي نجح أيضا في جذب الجماهير، يعتبر فنانا عربيا وهو من التونسيين القلائل الذين ضمنوا نجاحا وإشعاعا عربيا يجعلهم يوازون زملاءهم العرب من حيث المشاركة في المهرجانات والقيمة المالية لعقودهم.

وككل دورة، دخلت إدارة مهرجان قرطاج منذ أيام في صراع مع فنانين تونسيين ومع جمهور “متعصب” للفنان التونسي حتى وإن كان غير قادر على تأثيث سهرات بالآلاف من الحضور أو تغطيه تكلفة العروض من حيث مبيعات التذاكر. وهذا الصراع يبدو مزمنا بين الفنان التونسي والمهرجان، رغم تغير إدارته مرات عديدة، وخاصة مع آخر مديرين هما مختار الرصاع وكمال الفرجاني المدير الحالي للمهرجان.

ويرى فنانون تونسيون أنهم محرومون من حقهم في اعتلاء خشبة المهرجان الدولي العريق، ومنهم الفنان التونسي صلاح مصباح الذي انتفض خلال الندوة الصحفية مهددا مدير المهرجان ببث فيديو مسجل على صفحته الخاصة بموقع فيسبوك يسرد فيها تفاصيل اللقاء الذي جمعهم، ومتسائلا “هل يحب راغب علامة تونس أكثر منّي؟”.

وبرر مدير المهرجان كمال الفرجاني الأمر، بأن راغب علامة الفنان الوحيد الذي لم يرفع أجره في الحفلات التي يشارك بها في المهرجان منذ 2010، كذلك برر عدم برمجة فنانين خليجيين وعربا مشهورين بارتفاع أجورهم وبأن المهرجان غير قادر على ذلك ماديا، وهو ما يبدو إجابة غير منطقية في زمن جعلت فيه التكنولوجيا التسويق وجذب جماهير حتى من خارج البلاد وبيع العروض وجذب المستشهرين أمرا أكثر سهولة مما مضى.

وبعض الصحافيين أيضا تساءل عن غياب أسماء تونسية أخرى من برمجة الدورة الـ57، منهم الفنان محمد الجبالي، لكن مدير المهرجان أوضح أن الجبالي رفض المشاركة بسهرة ثانوية مشتركة مع فنان آخر، واشترط أن تكون له سهرة خاصة به، لذلك رفض المهرجان برمجته، ورغم أنه موسيقيا يستحق ذلك عن جدارة إلا أنه جماهيريا لا يمكنه تأثيث سهرة بطاقة استيعاب كان أقصاها نحو 7715 متفرجا حضروا حفل راغب علامة في الدورة الماضية. (أكبر سهرة من حيث عدد المتفرجين خلال الدورة كاملة).

 

رهان كبير على الجماهير لتخطي الصعاب
رهان كبير على الجماهير لتخطي الصعاب

 

ومن حق صلاح مصباح أو محمد الجبالي أو غيرهما من الفنانين التونسيين الاعتراض على عدم برمجتهم ضمن المهرجانات التونسية الكبيرة وفي مقدمتها مهرجان قرطاج الدولي، لكن عليهم أن يكونوا منطقيين ويتخلوا عن “الأنانية”، فقرطاج في الأخير وإن كان مهرجانا مدعوما من الدولة إلا أنه يبحث عن هامش من الربح المادي يضمن له الاستمرارية وتغطية مصاريفه.

وإدارة المهرجان ترى أن أغلب الفنانين التونسيين ما عدا أسماء قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة بإمكانها تحقيق معادلة الربح والإقبال الجماهيري وهو ما يبحث عنه قرطاج وأيّ مهرجان موسيقي آخر حول العالم، فلا يعقل أن يبرمج فنان بكراس فارغة، أو بإنتاج قديم لا تمكن المراهنة عليه.

وقرطاج يظل حلم الفنانين تونسيين وعربا، لكن من أجل اعتلاء خشبته لا بد من العمل والاجتهاد ليصبح الفنان قادرا على الأقل على ملء نصف مدرجات المسرح الأثري، وكذلك فعل الفنان التونسي رؤوف ماهر الذي طالب جمهوره من العام الماضي ببرمجة سهرة خاصة به، وكان لهم ذلك هذا العام، ويأتي قرار المهرجان انطلاقا من شعبية الفنان التونسي الذي اجتهد طوال عشر سنوات ليفتك لنفسه موقعا جماهيريا ويحقق نسب مشاهدة عالية على مواقع التواصل الاجتماعي، ويؤكد أن النجاح ممكن والمشاركة في مهرجان قرطاج “باستحقاق” ممكنة أيضا.

هذا الصراع الدائم خاصة بين فناني الموسيقى الوترية وإدارة المهرجان المتغيرة يكشف عمق الأزمة التي تعاني منها الموسيقى الوترية في تونس، فالجمهور انصرف نحو أنماط موسيقية أخرى منها الراب والموسيقى الشعبية، وتجده يقبل عليها في المهرجانات لكنه لا يقتنع بحضور عرض لمغنّي الموسيقى الوترية مهما كانت أهميته وقدراته الصوتية.

من ناحية أخرى جاء الفيديو الترويجي الرسمي للدورة الـ57 تحت شعار “شوف الدنيا بعين كبيرة” والتي تقول إدارة المهرجان إنها تصور علاقة المواطن التونسي بمهرجان قرطاج وتعلقه به إلى جانب أهمية هذا المهرجان وعراقته، لكن مجرد جولة سريعة وخاطفة على صفحة المهرجان بموقع فيسبوك، أو تعليقات الجمهور على الأخبار الخاصة بالمهرجان، تكشف أن شريحة واسعة من التونسيين لم تعد ترى المهرجان والدنيا “الفنية” في تونس بعين كبيرة، وإنما تعتبر الفن إهدارا للمال العام في زمن يفتقد فيه التونسي لأبسط السلع الضرورية، وهو موقف يحتاج من الدولة سياسة ثقافية ترفع الوعي الجمعي ليدرك المرء أن الفعل الثقافي ضروري لتوازن المجتمعات ولا يمكن ربط عائدات المهرجانات وأجور الفنانين بأيّ مشكلات اجتماعية أخرى.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى