بحضور الموت: للنساء الرائحة..وللرجال الحُفَر
النشرة الدولية –
المدن – رولا الحسين –
يصفعنا الموت، فيُعيدنا. يضع أمامنا الحقيقة. يمرغها في وجوهنا، في عيوننا وأنوفنا وشفاهنا وآذاننا. يمرغ الحقيقة التي نهرب منها: سنموت.
سنموت يومًا ما، سنموت بعد قليل، مهما طال هذا “القليل”. الموت آت، ولن يكون بعيداً. فسنوات العمر قصيرة أمام أبَد الموت.
عندما يحضر الموت، عادة يحضر لغيرنا، لأن المُُصاب بهذه الحقيقة، بهذا الموت، لن يعرف، وبالتالي عندما يحضر، لا يكون موتنا -لأنه لو كان موتنا لما عرفنا. يحضر لغيرنا، وغيرنا يعني ليس نحن، ليس أنا. عندما يموت أحدٌ غيري، يحضر الموت لي. تحضر حقيقته التي أحاول أن أتجاهلها لأني لا أفهم العدم، لا أفهم غيابي، ولا أريد أن أفهمه. لا أريد أن لا أكون.
عندما يموت غيري، أتذكر الموت. ثم أتذكر الحياة التي كنت أحاول أن أعيشها ولم أنجح دائمًا… أتذكر ثم أنتبه كم هي تافهة هذه الحياة التي لا يمكنها تجنب العدم. كم أنها صغيرة أمام ضخامة العدم. كم أنها عاجزة أمام جبروت العدم. وكم أننا أغبياء، كم أني غبية حين كنت أفكر وأعيش أو بالكاد أعيش حياة تافهة وصغيرة وعاجزة، متجاهلة ضخامة وجبروت الموت العدم.
وأشد لحظات هذا الحضور هي لحظات الوداع، وداعنا لمن سبقنا إلى العدم. لا شيء يشبه هذا اليوم، ففرح استقبال حياة ما، لا يوازي حزن وداعها.
الفرح مرتبط بالمستقبل، بالمتخيل، بالمُشتهى. أما الحزن فمرتبط بالماضي، والماضي ملآن بما حصل. وما حصل أصبح مرارة عند بدء لحظات الوداع، وبدء العدم. لا شيء يتفوق على المرارة.
أكثَف لحظات الموت تحضر في يوم الوداع، يوم بدء تاريخ المرارة… وتحديداً في الدقائق التي تصغر لتصبح ثواني، ثم تصبح الأبد. وفي الدقائق التي تسبق الأبد المرير، يظهر الرجال.
يطلُّ الرجال على النساء المحيطات والحاضنات لمنَ فارَق. تُسمع، مع وقع أقدام الرجال القادمين، همسات النسوة: جاؤوا… جاء الرجال… لقد وصلوا.
الاحتضان… احتضان ما قبل الأبد من حق النساء. لم يُناقش الأمر، ولم يُتّخذ فيه قرار. إنما يحصل كأمر بديهي، كحقّ، والحقّ لا يُناقش. للنساء الساعات الأخيرة، والأحضان الأخيرة، والمحادثات التي تدار من طرف واحد وتكون الأخيرة.
أما الرجال فلهم الثقل. واجبهم. لم يُناقش الأمر، ولم يُتّخذ فيه قرار. إنما يحصل كأمر بديهي، كواجب، والواجب لا يُناقش. للرجال اللحظات الأخيرة التي تمتد وتصبح الأبد.
تنظر النساء للرجال في تلك اللحظات كأنهم مخلوقات شريرة وبلا ملامح، جاؤوا من كوكب غريب، حضروا ليسرقوا الميت من أهله، من نسائه. النساء هنّ أهل الميت، والرجال هم المخلوقات الشريرة. مخلوقات صامتة، لا تحضن، كي لا ينقص من حصة النساء حضن. ولا تبكي، كي لا تنقص من حصة النساء دمعة.
النساء يردن الانضمام إلى التابوت مع الميت. يُردن أن يمُتن معه. الرجال يفهمون طبيعة الأمور جيداً. لطالما جاؤوا للنسوة بالأبد. أًوكلوا بإحضاره. النساء تَحتضِن، والرجال يسرقون المُحتَضن من أهله نحو الأبد. الرجال صنّاع الأبد.
يحفرونه أولاً، يصنعون مكاناً له، ثم يأتون كلصوص، لصوص الثواني الأخيرة. يسرق الرجال المُحتَضن من النساء. يسلبوهن إياه. ويحملون ثقل اللحظة الأبد، وثقل الجسد وثقل الحفرة التي ستضم الجسد، وثقل النظرات الحاقدة، نظرات النساء، ثمّ يحلُّ الأبد. الحفرة والثواني الأخيرة ولصوص الثواني الأخيرة والإيداع الأخير في الحفرة… زمكان الأبد وقماشته.
تبقى رائحة الميت مع النساء. ويبقى مع الرجال الثقل.
النساء يحتكرن الحزن على الميت، يحتكرن الميت. أما الرجال فيحتكرون الحُفَر، حُفَر الأبد.