بول شاوول: انا تجريبي لا أسلوبي … لا اكتب قصيدة واحدة
النشرة الدولية –
الخبر – ريتا بولس شهوان –
انسانية المكان. وليس اي مكان، الحديقة على هيئة عقل بول شاوول ما تبحث عنه في أدبه. في هذا المكان الخاص بمساحة شاوول العقلية يبحث الناقد، حيث الضوء كشفرة حادة، والرجل (هو) ليريكي، وللورد رائحة فم وعري يلفح صدر الانسان. يستخلص القارئ انه على مرمى ابداع في الانواع الادبية المختلطة في كتاب حديقة الامس (دار النهضة). تسأل: هل هي رواية وسط قصيدة (حديقة بلا ابواب)، او مشهد وصفي في مقهى يتوسط حديقة في الهواء الطلق.
الحديقة تراها بعين شاوول بابعادها المتعددة، ومن مسافات الزمن والوقت وتقاسيم اليوم. فالهواء يمتزج حيناً مع الغبار والغبار لفظة مكررة على طول النصوص مع الاوراق التي يستعملها للكتابة في منزله، والمنزل بين المسافة الفاصلة بينه وبين طاولة الحديقة من على. تماهي بين هذا المكان وفكره. فتقرر ان تساله عن أشيائه فيخبرك في حديث عن حبه للشجرة التي يستظل بها بادبه.
بمن تأثر بول شاوول؟
ترجم بول شاوول في المسرح، والادب العالمي، كما اعلمنا خلال حواره معنا مؤكدا أن “الشاعر لا يحصر ثقافته بالشعر” اذ على حد شرحه يجب ان ينوع قراءاته ويتشعب في حواسه. اضافة الى هذا النشاط العالمي، تعمق في الادب الفرنسي الذي اكتسبه كلمة كلمة، حرف حرف عندما انتقل الى مدرسة حكومية، حيث كانت تعلم اللغة الفرنسية باللغة العربية ورسب. فتحدى نفسه، وقرر التمرس باللغة فراح ينهل من الكتب العالمية في اللغة الفرنسية ويفك اسرار الالفاظ عبر معجم فرنسي. وصل بصبره على الكلمات الى اليونان الذي يعتبرهم آبائه فكريًا لذا ثقافته لا تحد لا بالشرق ولا بالغرب. فشرقاً لا يجتث التراث العربي من الحداثة- فهو عربي الهوية على حد اصراره- على شاكلة ما يفعل بعض الشعراء الحديثين، واصفا الحداثة بحد ذاتها بـ”الشعار”. يرفض ان يحد نفسه بقالب جاهز او بفكرة جاهزة على حد تعبيره. في بدايته يخبر عن انغماسه في ادب خليل حاوي عن عمر 15 عاما، نافياً معرفته بهوية من تأثر به حصرًا، اذ اختلطت كل قراءاته في ذهنه فانطبع باللغات والدلالات والالفاظ الاشتقالات التي تتبعثر بين ثنايا عقله ولا تخرج الافكار الا رويدا رويدا، ليعود لينقحها على مرّ السنين. فهو اديب “التجريب” الذي يحدده بطريقة كتابة وعمل وفكر، والحياة مسرحها. هو من مدرسة الجاحظ الذي يعتبر ان المعاني والافكار ملقية على الطرقات انما التجربة تصقلها والكلمات وجودة اللغة تولّدها، وهذه تعتمد على عمق تجربة الكاتب في الحياة وسعة ثقافته فيؤكد انه يقرا اصغر ورقة يقع عليها، اذ قد يستوحي منها تفصيلاً تغنيه عن الفراغ. هكذا كل ما يقرأ اصبح خلية من خلاياه غير قادر هو على تشريح نفسه وهو حيّ بها، تاركًا هذه المهمة للقارئ والناقد. يذكر شاوول مرارًا انه استاذ ادب عربي في حواره، فهو لم يأت من هواء. هنا يعود بالذاكرة الى مرحلة رفضه اكتساب مهنة، بعدما اقنع الجيران اهله بضرورة ان يترك التعليم الاكاديمي التقليدي. الا ان اصراره على التعلم، جعله يصبح مدير اقسام ثقافية في مختلف الصحف اللبنانية منها صحيفة المستقبل اللبنانية، السفير. عاشر الرجل اهم الادباء كمحمود درويش، الشاعر الكبير الذي تكونت صداقته معه بعد سوء تفاهم باعتباره اعتبر ان في حياة درويش الشعرية مرحلة انتقالية.
التجريب والخروج عن القصيدة الواحدة
“انا شاعر لا اكتب قصيدة واحدة كل حياتي. لا اقلد احد ولا نفسي” هكذا يختصر بول شاوول مدرسة التجريب التي تحرره من استعمال اسلوب واحد كل حياته فهو “ليس صاحب أسلوب” بمعنى ادق بعد تصنيف موقفه يقول ” أنا ضد الاسلوبية” فله طرق عديدة ليصل الى اصدار القصيدة من كيانه. التجريب بنظره هو “البحث في المجهول دون افكار جاهزة”منطلقاً من تجربته في الحياة فقد يبقى عشر سنوات دون ان يكتب وهذا فعل “تجريب” بحد ذاته لانه لا يملك اسلوباً واحداً. اذا كل كتاب يملكه من العشرين، على حد وصفه يختلف عن الآخر فلا يكرر نفسه، فقصيدة “البياض” هي مرحلة في حياته الادبية وانتهت اذ ان كل قصيدة هي مرحلة “تجريبية” من مسيرته الادبية ككل، التي تشكل محطة من سلسلة محطات أكان في اللعب باللغة والتعبير. شاوول مستعد ان يرمي مسودة كتاب ان وجدها لا ترضي ذوقه الادبي معرضًا نفسه بنفسه الى نقد أدبي لاذع، داعياً اترابه الى هذه الخطوة اذ برايه الذي لا ينقد نفسه انتهى ادبياً. فعل الرمي طقس من طقوس التجريب يصف مشاهد الذاكرة التي تعج بقصائد من 700 صفحة وهي عبارة عن نسخ متعددة لقصيدة واحدة ينقحها مرارا، وقد يجدها صباحًا جيدة اما في الصباح الآخر مع تغير المزاج الشعري، يجدها صالحة لسلة المهملات ان تجرأ على “تقليد نفسه” مرة.
الغياب في حياة بول شاوول ….
لم يفقد امه بعمر مبكر، لكنها لم تكن تجربة تنسى. الموت حفر في شعوره عميقاً كما يحدد، فهو الغياب المجبول بالتراب، حيث تنشا التجربة الاليمة. هذا الغياب لم يكن وحده ما صنع تجربته بل ايضا الخروج عن بيئته التي يخبر مراراً عنها كحدث عاصف في حياته. وهذا الخروج عن سن الفيل، ضيعته، انما هو قرار بالقطع مع مجتمعه، الذي نشأ فيه نتيجة كرهه للحرب وثقافة الاقتتال، متخذا من شارع الحمرا مسكنًا فكريا وجسديا بسبب التنوع الذي يحويه. امتد فعل القطع هذا على قرارات اخرى في حياته كالالتزام بامراة واحدة فيروي انه مارس “المساكنة” مرات عدة لكنه ثائر على فكرة الزواج بحد ذاتها على الرغم من عشقه للمراة والانوثة. ثورته على الزواج من ثورته على الحرب سائلا: كيف اتزوج، وكانت الحرب تنقلني من مكان لآخر، فلا اعرف متى سابقى هنا ومتى سانتقل الى هناك؟ هذا التنقل المستمر وحالة اللاستقرار المختلطة من الغياب بعثرة روحه، لتاتي نيران الحرب لتقصف مكتبته الاعز على قلبه ابان حكم ميشال عون، الامر الذي اشعل في روحه مرارة الفقدان وعزز علاقته بالكتب، التي هي كائن حي ينمو فيه. لا يمكن فهم كل هذا التمرد دون الغوص بفعل “نبذ” الطائفية وهو الاخ الشقيق للانقطاع عن بيئته، ومر على ذلك خمسون عاما، التي تجنح الى فرض الزعيم وافكاره على كيان الانسان الذي من المفترض ان يكون حرًا بنظره من العائلة، القبيلة، الاحزاب، والنظام مرددًا عبارة: “أنا دفعت ثمن مواقفي وحريتي نفسياً وكل قرار “إرادي”، اتخذته في حياتي”.
يربط شاوول بين الحرية والشعر، والتحرر من البيئة وثقافة “الفرض” مضادة لهذه الحرية التي تخوله تكوين رايه الخاص وموقفه. مستفهما عن جدوى الكتابة ان لم يكن صاحب حرية مطلقة فعمن ماذا يكتب يلفت عن “عامود الكهرباء؟”.
بول شاوول اليوم يتنفس الحرية في شارع الحمرا. زاهدًا بالجوائز. منتظرًا من على طاولة المقهى بزوغ القصيدة، التي نادرًا ما تحصل معه دفعة واحدة.
ريتا بولس شهوان، صحافية وباحثة ساهمت في عدد من الكتب منها “الكويت وإرادة الاستقلال في الوثائق العثمانية” و “ماذا فعل مدحت باشا في الخليج”(ذات السلاسل) وعملت في عدد من الصحف والمواقع الالكترونية العربية. تلقت تدريبات دولية على الاستقصاء وتخصصت في الاستقصاء الاجتماعي – الاقتصادي كما تولي اهمية كبيرة للشأن السياسي.