الأردن الدولة الفريدة
بقلم: مصطفى الفقي
الملك الراحل الحسين بن طلال كان يملك السياسات البديلة وفضيلة العفو عن خصومه فيحيلهم إلى أشد الناس أنصاراً له
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية –
يتميز الأردن بخصوصية تاريخية يختلف بها عن بقية دول المنطقة، فهو دولة ملتقى بين مزاج الجزيرة العربية من ناحية وتأثيرات الشام الكبير من ناحية أخرى.
نشأ الأردن ترضية للشريف حسين الذي وعدته بريطانيا بأن يكون ملك العرب ثم أخلفت وعدها كالمعتاد على رغم مساندته للحلفاء في الحرب العالمية الأولى ضد الأتراك في ذلك الوقت، ووجدت بريطانيا أن ابن الشريف حسين الأمير عبدالله ليس له عرش يؤويه مثل أشقائه الذين سبقوه، وبالتالي فإنه يتعين توفير دولة تعزز الترضية التي يحاول الحلفاء تقديمها للشريف حسين الذي ذهب إلى منفاه الاختياري في جزيرة قبرص، وقد تولى الأمير عبدالله عرش الإمارة إلى أن تحولت إلى اسم المملكة الأردنية الهاشمية وأصبحت دولة مؤثرة في المنطقة بحكم موقعها الجغرافي، فهي محصورة بين دول عدة بحدود مشتركة بدءاً من سوريا مروراً بالعراق وصولاً إلى لبنان والأرض الفلسطينية المحتلة ولها ميناء على البحر الأحمر هو ميناء العقبة.
كما أنها تعتبر ذات إطلالة غير مباشرة على البحر الأبيض المتوسط وتقوم على عنصرين أساسيين من عرب المنطقة يتجه جزء منها إلى الأصول الفلسطينية الشائعة والدماء المشتركة بين العشائر الأردنية وانصهارها السكاني مع نسبة لا بأس بها من الفلسطينيين، ولقد تعرضت المملكة لضغوط شديدة وكثيرة على مدى سنوات قيامها إلى أن حصدت رصاصات قاتلة حياة الملك عبدالله في مدخل المسجد الأقصى وكان بصحبته حفيده الأثير الحسين بن طلال الذي آل إليه العرش بعد فترة قصيرة تولى فيها عمه الأمير نايف بسبب الادعاء بأن الأمير طلال غير متوازن عقلياً على رغم ميوله الوطنية وأفكاره القومية.
لقد أبلى الحسين بن طلال بلاءً حسناً وخرج بالمملكة الصغيرة من ظروف صعبة وتعقيدات متوالية وعاصر المواجهة الكبيرة مع عبدالناصر الذي كان يجسد جزءاً كبيراً من الحلم العربي الذي اتصفت به سنوات الخمسينيات والستينيات كما عاصر الوحدة المصرية- السورية واهتزت أركان حكمه مع ثورة العراق ضد ابن عمه الملك فيصل الثاني والوصي على عرشه الأمير عبدالإله كرد فعل لسياسات نوري السعيد المعادية للحركة القومية والداعية إلى التحالف مع بريطانيا والدول الأخرى التي تسير في فلكها، لذلك فإن قيام دولة الأردن كان بمثابة تأكيد للتوازن في منطقة المشرق العربي ولكي تكون ظهيراً لسياسات متداخلة في المنطقة.
تميز الملك الحسين بن طلال بالقدرة الفائقة على إحداث توازنات في سياسات مملكته استطاع بها أن يجعل للأردن مكانة متميزة في موقعها الجغرافي المحاصر وهو الذي تمكن من اجتياز أصعب العقبات ومواجهة أخطر الظروف، وأقام الملك الذي درس في “كلية فكتوريا” بمصر شبكة من العلاقات الدولية الناجحة وحظي الأردن باحترام في المحافل والمؤسسات العالمية بشكل ملحوظ.
وعلى رغم أنه يقع في قلب أزمة الشرق الأوسط وهي المشكلة الفلسطينية إلا أن الملك الذكي – رحمه الله – تمكن دائماً من تجنيب بلاده الأخطاء الكبيرة، وعندما استبدت به الحماسة الوطنية وطرد الجنرال كلوب باشا من قيادة الجيش العربي في الأردن لقي ترحيباً من عبدالناصر ومعسكره ثم تدهورت العلاقات بين القاهرة وعمان بعد ذلك لأعوام عدة إلى أن وصل الملك الحسين إلى مطار القاهرة يقود طائرته العسكرية ويأتي ليؤازر عبدالناصر ومصر قبيل حرب عام 1967 بيوم واحد، وكانت النتيجة دخول القوات الإسرائيلية إلى سيناء والضفة الغربية والجولان في ما نطلق عليه “حرب الأيام الستة” فأطلت الهزيمة بوجهها الكئيب وأثرها الحزين على الوجه العربي كله.
ظل الملك الحسين مقبولاً لدى معظم الأطراف محتفظاً بعلاقات ودية مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية، فضلاً عن قدرته على التوافق مع المتغيرات والتعامل مع كل الأوضاع الجديدة متسماً بالحكمة والتسامح مع خصومه وفتح جسور للتواصل علنية وغير علنية مع كل الأطراف بما في ذلك إسرائيل حفاظاً على مملكته وفتحاً لجسور التواصل مع كل الجيران، ولقد شعرت شخصياً بكثير من الرضا والارتياح وأنا أرى الملك عبدالله الثاني يحاول تكريس جهد الدبلوماسية الأردنية لحل المعضلة السورية الحالية ورفع المعاناة عن ذلك الشعب الشقيق الذي دفع فاتورة فادحة خلال الأعوام الأخيرة وظل دائماً رقماً صعباً في منطقة المشرق العربي ودوله المؤثرة في مستقبل المنطقة كلها، ويجدر أن نناقش هنا بعض النقاط ذات الصلة بالموضوع:
أولاً: لقد تمكن الملك الأردني الراحل من اجتياز الخلاف الحاد بعد غزو صدام حسين للكويت وتعرض المملكة الأردنية الهاشمية بل أيضاً حركة التحرير الفلسطينية لانتقادات شديدة لتأييده للغزو في بدايته نتيجة شعوره بأن دول الخليج ليست داعمة للأردن اقتصادياً ويبدو ما تقدمه لها دون المستوى المنتظر، ولقد حضرت شخصياً قمة بغداد قبيل الغزو بأشهر قليلة وهي التي قال فيها الملك بالنص المأثورة العربية، “أضاعوني وأي فتىً أضاعوا، احتجاجاً على ما جرى معه ومع بلاده من تجاهل”، علماً أن المملكة الأردنية الهاشمية محدودة الموارد ولا تصدر النفط وعليها التزامات أمنية في منطقة حساسة في قلب الشام الكبير بكل ما له وما عليه.
في ذلك المؤتمر وعد الرئيس صدام حسين أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد بأنه سيزوره من دون موعد في المستقبل وكأنما كان يلوح بفكرة الغزو من دون أن يفصح عنها، وفي تلك المنطقة من العالم العربي تخضع العلاقات لحسابات مختلفة وعلاقات متشابكة يلعب الغرب فيها دوراً كبيراً.
ثانياً: عندما تولى الملك الحالي عبدالله الثاني عرش الأردن وقدمه شيخ السياسيين في عمان أمام الجلسة المشتركة لمجلس الأعيان والنواب السيد زيد الرفاعي رفيق الحسين بن طلال ورئيس وزرائه لأعوام عدة قائلاً، “صاحب الحضرة الهاشمية جلالة الملك عبدالله بن الحسين”، كان ذلك إيذاناً بمرحلة جديدة تختلف في سياساتها وتتنوع ظروفها عن غيرها من المراحل التاريخية المختلفة.
لقد مضى الملك عبدالله الثاني على نهج أبيه مع اختلاف بالطبع نتيجة التغييرات التي جرت وجعلت الأردن في صدارة الدول المؤثرة في النزاع العربي- الإسرائيلي، ولقد تعرض حكم الملك الأردني الحالي لبعض عمليات الصعود والهبوط ولكنه يظل امتداداً لعرش أبيه وأجداده ولا تخلو سياسته من دهاء فطري وذكاء سياسي تجعله حريصاً على العلاقات مع دول المنطقة من دون استثناء.
ثالثاً: لقد حرص العرش الأردني على قدر كبير من التسامح السياسي أمام المشكلات والمواجهات، فكان الملك الراحل الحسين بن طلال يضع بهجت التلهوني في منصب رئيس الوزراء عندما يريد أن يفتح حواراً مع القاهرة وقد يستعين بآخرين لتدعيم العلاقات مع العراق أو مع سوريا أو مع غيرهما، كان يملك دائماً السياسات البديلة والشخصيات التي تدين له بالولاء، كما كان يملك فضيلة العفو عن خصومه فيحيلهم إلى أشد الناس أنصاراً له، فلقد عفا عن اثنين من كبار ضباطه في مستهل حكمه كانوا يدبرون لانقلاب ضده فأصبحوا بعد ذلك من أشد الداعمين له والحريصين عليه. ولعلنا نتذكر أيضاً أنه هو الذي ذهب إلى مكان احتجاز المثقف الأردني الراحل ليث شبيلات واصطحبه معه بسيارته الملكية الخاصة ليلتقي الابن بأمه في صحبة مليك البلاد، تصرف فريد من نوعه وأمر لا نكاد نجد له نظيراً في أحداث التاريخ العربي المعاصر.
تلك رحلتنا السريعة حول المملكة الفريدة بتاريخها ومكانتها ودورها في المنطقة كإضافة إيجابية للمكانة العربية في العالم المعاصر.