حر وشوب وسخانا
بقلم: سعد بن طفلة العجمي
المشاريع البيئية لإنقاذ الأرض تعتمد مبدأ واحداً: "دعوها وشأنها"
النشرة الدولية –
“الكويت أبرد مكان بالعالم في فصل الصيف”، قالها صديقي المتقاعد بكل ثقة. “وين ما تروح تكييف وبراد، والكهرباء رخيصة وكل مكان مكيف والزحمة المرورية تقل ليلاً وتنعدم نهاراً”.
صديقي المتقاعد هذا لا يغادر الكويت صيفاً، يسافر أحياناً مع بداية سبتمبر (أيلول) “تكون الطيور المهاجرة (يقصد السياح) رجعت، والأسعار تراجعت، والاصطياف أسهل للحجوزات والسفر”.
تذكرت كلام صديقي وأنا أتابع الأخبار: موجة حر غير مسبوقة تضرب أوروبا وأميركا، بلغت درجة الحرارة في أجزاء من كاليفورنيا 56 درجة مئوية، أعدت قراءة الخبر! كاليفورنيا أم الأحمدي؟ بل كاليفورنيا. كما سجلت الصين هذا الأسبوع أعلى درجة حرارة في تاريخها بلغت 52 درجة مئوية. اثنان وعشرون ألفاً ماتوا من الحر بأوروبا وحدها السنة الماضية 2022. لم ينته صيف هذا العام بعد كي نعد ضحاياه عام 2023.
“حر” هي الكلمة الأكثر انتشاراً بالجزيرة العربية والعراق ووادي النيل، ويقولون “سْخانا” بشمال المغرب العربي بتسكين السين، وتنتشر كلمة “شوب” ببلاد الشام وأصلها من السريانية بالمعنى نفسه، كما يقولون في وصف حر الشهر المقبل “آب اللّهّاب”، مستعملين كلمة “آب” السريانية لاسم الشهر الثامن الميلادي.
حرائق وفيضانات وجفاف وتصحر ودرجات حرارة عالية غير عادية تجتاح كوكب الأرض. تخيل أنه يمكنك عبور نهر دجلة مشياً على الأقدام تحت جسر الدورة ببغداد من دون الحاجة للجسر. جف دجلة الذي تغنى به الجواهري بقصائد عدة أشهرها في وصف الرصافة بقوله:
لها الله ما أبهى ودجلةُ حولها * تلف كما التف السوارُ على الزندِ
جف النهران دجلة والفرات. يلوم العراقيون تركيا وإيران بقطع الروافد عنهما وبناء السدود وحسر المياه. المسؤولون العراقيون يلومون تركيا فقط بالتسبب بجفاف النهرين!
أطلق شباب كويتيون مبادرة سموها “المليون سدرة” في محاولة للتخضير والتقليل من العواصف الرملية والحرارة. تعتبر السدرة “نبت القاع”، ومن بنات الأرض بمنطقتنا، وارفة الظلال ولا تتطلب الماء لتعيش وتنمو وتعمر وتثمر “الكنار”. تعثر المشروع ككثير من مشاريع كويتية طموحة.
يتعرض برنامج عمل الحكومة الكويتية الذي قدمته للبرلمان الأسبوع الماضي إلى انتقادات نشطاء البيئة بالكويت لخلوه من مشاريع جادة للتخضير والتخفيف من الحرارة القاتلة.
السعودية أطلقت مشروعاً لزراعة 15 بليون شجرة (البليون بالباء)، وهي أشجار من البيئة ومن شأنها أن تحدث تغييراً هائلاً في خفض درجات الحرارة ووقف التصحر وزحف الرمال.
أذكر أني كنت أمشي وأترابي صغيراً لمدرسة الجهراء المشتركة للبنين بين مزارع وأشجار ونخيل، الطيور التي كنت أشاهدها لم يسمع بها أبنائي ولا معظم طلبتي بالجامعة. أزالت المشاريع الكونكريتية تلك المزارع، تساءل أحدهم متحسراً بسخرية: “هل نحن في كانساس كي نزيل مزارع الجهراء التي تغنى بها الفنان حسين جاسم: واحة الجهرا فيها يشفى العليل، جنةٍ فيها العذارى يرقصون؟”.
في أحد اللقاءات شبه اليومية بحكم عملي كوزير للإعلام بيوليو (تموز) عام 2000 مع أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح، رحمه الله، سألني بعد التحية الصباحية المعتادة: “شخبار الديرة؟”، فقلت: الديرة فاضية يا طويل العمر، شهر سبعة والكويتيين انحاشوا (هربوا) من الحر”.
كان الشيخ جابر لا يسافر إلا نادراً ومضطراً وللعمل فقط، فقد كان متعلقاً بالكويت ولا يحب مغادرتها أبداً. قال لي بنبرة محب: “ليت الكويتيين يحمدون النعمة التي هم فيها، دول كثيرة تعاني من الزلازل والفيضانات والأعاصير والحرائق والكوارث الطبيعية المختلفة، ونحن لا نشكو إلا من الحر بالكويت، والحر مقدور عليه”، وأومأ بكفيه وراحتيهما إلى الأرض مكرراً: “شهر شهرين”، وكررها: “شهر شهرين، وبس”، وهو يقصد أن الحر لا يقارن بالكوارث البيئية التي تعاني منها دول العالم.
لعب الإنسان بالبيئة ودمرها بممارسات مختلفة، أبخرة سامة متنوعة وصيد جائر ورعي جائر وحرق غابات وممارسات عبثية أغضبت البيئة، فثارت بحرارة غير مسبوقة، وكوارث طبيعية متكررة بنتائج وخيمة على الإنسان والمقدرات والخيرات الطبيعية، ولا مناص من أن يحترم الإنسان البيئة، ويعطيها حقها الذي تستحقه، ليس من أجلها وحسب، بل من أجل رفاه الإنسان وبقاءه على هذا الكوكب.
المشاريع البيئية لإنقاذ الأرض تعتمد مبدأ واحداً: “دعوها وشأنها”، وبالشعبي: “فكّوها من شرّكم يا بني الإنسان”، فالأرض قادرة على استعادة نباتاتها وحيواتها الفطرية والبرية والبحرية إذا ما تركت وشأنها.