السعودية وإسرائيل… تطبيع أم لا تطبيع؟
بقلم: د. سالم الكتبي
النشرة الدولية –
إيلاف –
عادت الحديث عن تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل إلى الأضواء بقوة بعد تصريح لافت أدلى به الرئيس الأميركي جو بايدن أشار فيه إلى إن إسرائيل والسعودية أمامهما طريق طويل حتى يبرما إتفاق التطبيع، قائلاً: “ما زلنا بعيدين عن ذلك. لدينا الكثير لنتحدث عنه”، وما زاد أهمية التصريح أنه جاء عقب نشر تقارير إعلامية عن وساطة وجهود دبلوماسية مكثفة تقوم بها إدارة الرئيس لإنجاز هذا الموضوع.
الرئيس الأميركي أضاف في تصريحه: “بصراحة تامة، لا أعتقد أن لديهم (السعوديون) مشكلة كبيرة مع إسرائيل. وما إذا كنا سنوفر وسيلة تمكنهم من الحصول على طاقة نووية مدنية أو أن يكونوا (السعوديين) ضامنين لأمنهم.. أعتقد أن هذا بعيد قليلا”.
الواقع أن الأمر ليس مفاجئاً بالنسبة للمراقب المتخصص، سواء لجهة الدراية بالموقف السعودي إزاء هذا الموضوع، أو في ضوء تصريحات أميركية سابقة منها تصريح السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل توم نايدس، والذي قال فيه، وأضاف السفير: “أعطى بايدن الإذن لفريقه لاستكشاف إمكانية إبرام صفقة مع السعودية، لا أعرف إلى أين سيتوصل الفريق لكن بايدن قد إتخذ هذا القرار وهو يرغب في إنجاز ذلك. هل سيحدث ذلك؟ غير متأكد. لا أعلم. إنه أمر معقد. إنه صعب للغاية، وإن حصل سيغيّر وجه المنطقة تمامًا مثلما كان نجاح اتفاق أبراهام باهراً”.
مناقشة موضوع العلاقات بين السعودية وإسرائيل على المستوى الدبلوماسي الرسمي (التطبيع) تحتاج إلى دراية عميقة بوضع المملكة العربية السعودية وحساباتها الإستراتيجية الشاملة في هذا الملف بالغ الحساسية بالنسبة لها، فالمملكة في رؤيتها لإسرائيل ليست كشقيقاتها من الدول العربية والإسلامية، بل لها وضعية ومكانة دينية إستثنائية مكتسبة من كونها تضم المركز الروحي والديني لنحو ملياري مسلم، وهو أمر يحتاج إلى مراعاة لأبعاده واستحقاقاته، لاسيما إذا كان هناك من يستغل أي موضوع وتوظيفه للإساءة للمملكة العربية السعودية، ومن بين هذه الموضوعات الحساسة بطبيعتها، ملف العلاقات مع إسرائيل، بكل ما يمتلك من زخم عاطفي وتراكمات تاريخية واستغلال ومتاجرة سياسية من جانب أطراف عدة، تراوح بين دول وتنظيمات، توظف هذا الملف من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها.
القيادة السعودية الحالية لديها رؤية إستراتيجية مغايرة للحاضر والمستقبل، وتمتلك خططاً طموحة للنهوض بالمملكة العربية السعودية ووضع البلاد في الموقع والمكانة التي تستحقها على خارطة العالم في القرن الحادي والعشرين، لذلك من الصعب أن توجد قيود على مناقشة أي فكرة أو مقترح، وهو مايفسر الحلحلة الملموسة في النظرة السعودية لإسرائيل خلال الآونة الأخيرة، ويكفي أن هناك سماح بتحليق الطيران الجوي الإسرائيلي في المجال الجوي السعودي، وهي خطوة نوعية كبرى ومهمة بالنظر إلى حجم التعقيد والحسابات المتداخلة التي تحيط بموقف الرياض في هذا الملف، ولو أضفنا إلى ذلك التصريح الشهير الذي أدلى به ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في عام 2022، والذي قال فيه إن المملكة لا تعتبر إسرائيل عدوًا لها، لأدركنا حجم التغيّر في النظرة والموقف الإستراتيجي السعودي بشكل عام.
تطبيع العلاقات السعودية ـ الإسرائيلية هو جزء حيوي من حسابات إدارة الرئيس بايدن، ورغبتها في إعادة ترتيب الأوراق بمنطقة الشرق الأوسط، ولكن المملكة العربية السعودية لديها رؤية أخرى تنطلق من مصالحها كقوة إقليمية فاعلة، لذا فموقفها من التطبيع مرهون بضمان تحقق هذه الرؤية الجيواستراتيجية التي لا ترهن المملكة العربية السعودية لأي تحالفات أو محاور، ولا تحد من هامش المناورة المتاح أمامها لتطوير علاقات الشراكة مع جميع القوى الدولية الفاعلة في نظام عالمي قيد التشكل بموجب التفاعلات الدائرة في حرب أوكرانيا، ناهيك عن أن أهم الاحتياجات الإستراتيجية للمملكة العربية السعودية في المرحلة المقبلة تكمن في ترسيخ الأمن والاستقرار وضمان بيئة إقليمية تتيح مواصلة تنفيذ مستهدفات رؤية المملكة 2030، وكل ذلك يعني واقعياً أن الكرة بالأساس في ملعب واشنطن التي لم تستوعب بعد فيما يبدو حجم التغيير الذي طرأ على قواعد إدارة اللعبة مع الحليف السعودي، وما يتطلبه ذلك من إدارة مغايرة لهذه القواعد.
الشواهد تقول أن الدبلوماسية السعودية تمضي بخطى مدروسة وواثقة للغاية في جميع الملفات، وقبل عامين أو أكثر قليلاً لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع حدوث إختراق ايجابي مهم كالذي حدث في العلاقات السعودية ـ الإيرانية، وهو إختراق لو تعلمون كبير بالنظر إلى حجم الضرر الذي أصاب الدولة السعودية من سلوكيات إيران ومواقفها الإقليمية خلال السنوات الأخيرة، ولاسيما ما يتصل بتدخلاتها في اليمن، بكل ما يعنيه من تهديد مباشر للأمن الوطني للمملكة العربية السعودية.
وقياساً على ماسبق، يمكن استنتاج مستوى عال من الواقعية السعودية في التعاطي مع أي ملف آخر، بما في ذلك ملف تطبيع العلاقات مع إسرائيل، حيث للمملكة العربية السعودية شروطاً معلنة للجميع، وبالتأكيد هناك شروط أخرى غير معلنة ربما تتعلق بالمصالح الإستراتيجية السعودية وإدارة العلاقات مع الولايات المتحدة، التي انخرطت في وساطة مباشرة بين حليفيها، السعودية وإسرائيل، لوضعهما في مسار تطبيع ثنائي للعلاقات الدبلوماسية.
قد لا يختلف اثنان من المتخصصين على أن تطبيع العلاقات بين السعودية واسرائيل سيجلب قدراً ما من الصداع الإقليمي للرياض، ومعالجة أسباب هذا الصداع قد لا تكون سهلة كما يُعتقد، لأنها ستكون غالباً غير مبررة ولا منطقية، بل ترتبط بالبعد الوظيفي الخاص بالمتاجرة والمتاجرين بالقضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني الشقيق، ولاسيما في ظل حالة التوتر المتصاعدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي تجعل من الصعب للغاية أن تقدم أي دولة عربية أو إسلامية، ناهيك عن السعودية التي توصف بالدولة القائدة للعالم الإسلامي، على خطوة تطبيع معلنة مع إسرائيل، وكذلك تنظيمات التطرف والإرهاب التي تتخذ من مثل هذه الموضوعات مادة تتغذى بها وعليها وتدغدغ بها عواطف بسطاء المسلمين في مشرق العالم الإسلامي ومغربه.
قناعتي ـ كمراقب ـ أن السعودية تمضي في مختلف ملفات المنطقة بخطوات مدروسة ومحسوبة وبعضها بحذر منطقي مطلوب، فليس هناك من ينكر تربص البعض بالمملكة العربية السعودية، على الأقل في إطار المنافسة التقليدية المعروفة على قيادة العالمين العربي والاسلامي، وبالتالي من البديهي تمضي ملفات مثل التطبيع مع إسرائيل ببطء وبشكل تدريجي، ولو أن حصول السعودية على مكاسب إستراتيجية تحفيزية مهمة قد يعزز لديها القناعة بتسريع خطواتها في هذا الملف، لاسيما في ظل ما يتوقع لهكذا خطوة من نتائج وتوابع إستراتيجية إقليمية ودولية مهمة للغاية.