إيران وجدل “المحافظين” و”الإصلاحيين”
بقلم: حسن فحص
النظام ليس على استعداد لإجراء تغييرات في سلوكياته ولا بد من التغيير
النشرة الدولية –
أجمل ما في المشهد الإيراني هذه الأيام ومع ارتفاع وتيرة التحضيرات للانتخابات البرلمانية المقررة مطلع مارس (آذار) 2024، هي تلك النصائح والتوصيات السياسية والفكرية وحتى الاجتماعية التي يقدمها قادة ومنظرو تيار السلطة “المحافظين” إلى خصومهم في التيار الإصلاحي وأحزابه، وهي نصائح وتوجيهات تتعلق بالآليات التي من المفترض أن يعتمدها “الإصلاحيون” للحصول على أفضل نتائج في الانتخابات البرلمانية المقبلة، حتى إن هذه النصائح وصلت إلى مستوى من الجرأة بهؤلاء بأن يتحدثوا عن طبيعة الخطاب السياسي والفكري الذي من المفترض أن يتبناه “الإصلاحيون” لكسب التأييد الشعبي، ويساعدهم في استعادة الثقة بينهم وبين هذه القواعد.
الحرص والإصرار الذي يمارسه “المحافظون” ومؤسسات النظام وقياداته والمتعلق بالصورة التي من المفترض أن تكون عليها الانتخابات البرلمانية، تنبع أو تعبر عن حجم الخوف الذي يسيطر على هذه الجماعة من تكرار تجربة الانتخابات البرلمانية الماضية، وأيضاً الانتخابات الرئاسية التي أوصلت إبراهيم رئيسي إلى قيادة السلطة التنفيذية.
عندما دخل المرشد على موضوع الانتخابات فاتحاً بذلك المعركة باكراً، حدد شرطاً أساساً ومحورياً لما يجب أن يعمل عليه الجميع، والمقصود بالجميع هنا مؤسسات النظام ومنظومة السلطة المتحكمة والمسيطرة على كل القرارات والتوجهات، فالمرشد يريد إعادة إنتاج شرعية النظام الشعبية وتوظيفها في الإطار الذي يخدم مصلحة السلطة، وفي الوقت نفسه أن تبقى هذه السلطة مصغية للجماعة التي تشكل قاعدة النظام وعصبيته الدينية والعقائدية وقبضته الأيديولوجية، وإن استطاع فلن يتردد في تكرار تجربة عام 2020 والمجيء ببرلمان يمثل طرفاً واحداً من المشهد السياسي، ينسجم مع رؤيته ومشروعه لتركيبة السلطة والنظام وأيديولوجيته.
ولا يختلف أحد من “المحافظين” وقياداته مع موقف المرشد الداعي إلى مشاركة واسعة في الانتخابات، إلا أن المطلوب من هذه المشاركة ووظيفتها حددها ورسم أهدافها رئيس البرلمان الأسبق وزعيم ائتلاف القوى والأحزاب الموالية والمقرب من المرشد الأعلى القيادي المحافظ غلام علي حداد عادل، وهي المجيء ببرلمان “أكثر ثورية” من البرلمان الحالي الذي يوصف بأنه البرلمان “الثوري” الأول منذ انتصار الثورة عام 1979، أي أن هذا التيار وجماعة السلطة المدعومين من الدولة العميقة يجدون صعوبة في تحويل هذه المشاركة إلى جسر عودة “الإصلاحيين” لمواقع القرار، حتى وإن كان ذلك بنسبة ضئيلة قد لا تكون مؤثرة في توجهات وقرارات السلطة التشريعية.
إلا أن المفارقة الأكثر طرافة في مواقف منظري التيار المحافظ هي عندما يرون أن الحيوية السياسية في أي نظام سياسي بحاجة إلى مبادرات فردية وحزبية وجماعات سياسية، لتكون قادرة على تقديم وطرح آليات عدة في أزمان مختلفة لحل الأزمات، وبذلك تحول دون وصول الحياة السياسية إلى حال الانسداد.
وفي مقابل هذه القراءة التي تقترب من دعوة القوى الإصلاحية والمعتدلة إلى المشاركة وخوض المعركة الانتخابية، فإن الجماعة المحافظة ودوائر التفكير لديها تضع شرطاً أساساً على “الإصلاحيين” لتكون مشاركتهم فاعلة وذات أثر، وهذا الشرط يرتبط بالوحدة الداخلية لـ “الإصلاحيين” وأن يخرجوا من الانسداد الذي يعيشونه، إلا أن هؤلاء يتناسون أو يستبعدون من ذاكرتهم الدور والأعمال والأفعال التي قامت بها السلطة على مدى العقود الماضية لتشويه التجربة الإصلاحية وإخراج الإصلاحيين والمعتدلين، سواء من “الإصلاحيين” أو “المحافظين”، من دائرة القرار والإدارة، لتحقيق هدفهم في توحيد السلطة والنظام والدولة في قبضتهم، وتطبيق رؤيتهم وأيديولوجيتهم.
وإلى جانب اتهام “الإصلاحيين” بأنهم يعانون انسداداً تنظيرياً إلا أن اللافت هو اتهامهم أيضاً من قبل منظري الجماعة المحافظة والجهاز الفكري للنظام “بالضياع الأيديولوجي”، والفشل والعجز عن تقديم تعريف واضح عن ماهية الإصلاحات التي يسعون إليها وهوية “الإصلاحيين.”
الخلفية التي تنطلق منها هذه الجماعة في التعامل مع “الإصلاحيين” هي أن النظام وجميع أجهزته الأمنية والفكرية والأيديولوجية لم تستطع دفع الجماعة الإصلاحية لتقديم تعريف مختلف عن رؤيتها ومشروعها يتعارض أو من خارج الدستور القائم للنظام، وهو الأمر الذي إن حدث فإنه كان سيسهل على هذه الأجهزة القضاء على هذه الجماعة واجتثاثها من جذورها، فالتمسك الذي أبداه الإصلاحيون بالدستور والنظام هو تمسك بضرورة العودة للمفاهيم والمبادئ التي أنتجته، أي إعادة إحياء البعد الجمهوري والعودة لروح الديمقراطية والتعددية التي وعدت بها الثورة قبل وبعد انتصارها، وعدم تغليب أو تكريس البعد الإسلامي وما يعنيه ذلك من نقل التجربة من “إقامة جمهورية” إلى “إقامة إمارة إسلامية” دينية مذهبية، أي أن التمسك بمبدأ المعارضة من داخل النظام ومؤسساته والالتزام بسقف الدستور للنشاط السياسي والحزبي لم يمنحا النظام وجماعاته الفرصة للربط بين هذه الأحزاب مع الخارج، واتهامها بالتآمر للانقلاب والإطاحة بالنظام.
وإذا ما كان “الإصلاحيون” يعانون أزمات كثيرة على مستوى الحذر الكبير في خطابهم مخافة الدخول في مواجهة مفتوحة مع النظام وأجهزته، إلا أنهم في المقابل وأمام الضربات المتكررة والحصار الشديد الذي تعرضوا له على مدى العقود الماضية، رفعوا من حدة الجدل الداخلي بين قياداتهم حتى بات الحديث يدور عن ضرورة الخروج عن السقف الدستوري الذي التزموا به سابقاً، لاعتقادهم أن التسويات مع منظومة السلطة أوصلت إلى مزيد من تشددها في إقصائهم، وبالتالي الذهاب إلى خيار متقدم ونزع القفازات، ولعل البيان الذي أصدره رئيس الوزراء الأسبق للثورة ومرشح الانتخابات الرئاسية الموضوع في الإقامة الجبرية منذ عام 2009 مير حسين موسوي قد يشكل السقف الذي يوفر الغطاء السياسي للمرحلة المقبلة، وذلك عندما دعا في بيان له خلال حركة الاحتجاجات الشعبية بعد مقتل الفتاة مهسا أميني إلى إعادة النظر في الدستور وصولاً إلى إنتاج دستور جديد لا توجد فيه ولاية فقيه مطلقة أو حتى ولاية فقيه، ويعيد إنتاج النظام ومؤسسات الدولة على أسس تعددية وديمقراطية.
وبيان مير حسين موسوي وإن كان سقفه مرتفعاً وفيه كم كبير من التحدي للمرشد ومنظومة السلطة إلا أنه وجه ضربات باتجاهات عدة، أولها للنظام وأجهزته عندما قال له إن في الداخل أصواتاً لم تخفت وعلى استعداد للذهاب إلى النهايات، وأنه لم يعد باستطاعته، أي النظام، الربط بين الاعتراضات الداخلية والمؤامرات الخارجية، وثانيها إلى المعارضة في الخارج عندما سحب منها ورقة المعارضة وأعاد هذا الفعل للداخل، وثالثها للقوى الإصلاحية وأحزابها بأن عليها حسم موقفها والخروج من حال التردد التي عاشتها وتعيشها، لأن النظام ليس على استعداد لإجراء تغييرات في سلوكياته ولا بد من التغيير.