النيجر رهينة الجماعات المتشددة والشراكات الأمنية
تنظيمات إرهابية تقدم نفسها بديلاً للدولة في الأرياف والمناطق البعيدة من مركزية السلطة
النشرة الدولية –
اندبندنت – منى عبد الفتاح –
بين التطرف والتمرد والارتزاق، تعيش النيجر دوامة من التقلب بين العناصر الثلاثة لا تخلو من المواجهات أحياناً والتحالف أحياناً أخرى. ومع أن المحاولة الانقلابية الأخيرة التي نفذها عناصر من الحرس الرئاسي (مجلس الدفاع والأمن) بقيادة الجنرال ميجور أمادو عبدالرحمن ضد الرئيس المنتخب محمد بازوم، مرتبط بنزاعات تقاسم السلطة الداخلية أكثر من ارتباطه بقضايا مكافحة الإرهاب، لكن الجماعات المتطرفة لعبت بواسطة الظروف الإقليمية وفي دول الجوار دوراً في زعزعة الدولة وهز مكانة بازوم الذي كان يخطط قبل الانقلاب لإقالة قائد الحرس الرئاسي.
وبعد أن حصل الانقلاب على تأييد رئيس أركان القوات المسلحة عبده صديقو عيسى، الذي برر موافقته بأنها من أجل تجنب مواجهة دامية بين مختلف القوات، إلا أن مواجهات أخرى ستنشأ بين هذه القوات والجماعات الإرهابية التي ستحاول الاستفادة من هذا الوضع، ولكن ستعتمد حدتها أو خفوتها على مدى توافق القوات المسلحة مع قوات الدفاع والأمن.
نشطت الجماعات الإسلامية المتطرفة في النيجر، على غرار تنظيمات “القاعدة” و”داعش” و”بوكو حرام” وجماعات أخرى ذات صبغة إثنية مثل الرعاة الفولانيين الذين ينتشرون مع ماشيتهم في الحدود الثلاثية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في مناطق أطلقت عليها “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” التابعة لتنظيم القاعدة و”تنظيم داعش بالصحراء الكبرى”، وتنظيم “داعش” في ولاية غرب أفريقيا” التابعة لـ”داعش”، حيث يتناوب الفولاني والطوارق على العيش في بعض المواقع وكثيراً ما تحدث بينهما نزاعات بسبب المرعى، وهو دافع انضمام معظم سكان هذه المناطق للجماعات الإرهابية بغرض حمايتها.
مسرح العنف
أسهمت ظروف عديدة في تكثيف الجماعات المتشددة نشاطها في غرب أفريقيا، خلال السنوات القليلة الماضية، وهو نشاط آخذ في التزايد بين صعود وهبوط منذ عقد التسعينيات، عندما بدأت هذه الحركات بالانتشار في دول الساحل الأفريقي. نشأت بداية جماعة “التوحيد والجهاد” ثم انضمت إلى “داعش”.
ومثلما ذكر موقع “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” فإن “نشوء (داعش في الصحراء الكبرى) وهو الفرع المحلي من التنظيم الإرهابي كان نتيجة الانقسام داخل (حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا) وإعلان قائدها عدنان أبو وليد الصحراوي انضمامه إلى (الدواعش) عام 2015. وعملت المجموعة أولاً في غرب النيجر ومنطقة ميناكا في شمال شرقي مالي ونفذت أيضاً عدة هجمات في بوركينا فاسو، ثم وسعت عملياتها الإقليمية على طول الحدود بين النيجر وبوركينا فاسو، وكذلك في منطقة غورما جنوب تمبكتو في مالي”.
وتناسلت من هذا التنظيم حركات أخرى بتسميات مناطق حاولت من خلالها إثبات سيطرتها على كثير من المواقع، وعندما ظهر التنافس بين التنظيمات الكبرى “القاعدة” و”داعش”، ظهرت تسميات أخرى للتنظيمات المتفرعة عنها بناء على انتمائها.
وفرت النيجر مثل دول الساحل الأفريقي الأخرى التي تنشط بها هذه الحركات المتطرفة، ظروفاً خاصة وبيئة خصبة ساعدتها في تكثيف نشاطها، ومنها، انتشار الفقر والفساد، والتوترات الإثنية، ومؤسسات الحكم الضعيفة نسبة إلى سيادة النظم الديكتاتورية أو قصر الفترات الديمقراطية.
وبهذا أصبحت النيجر ضمن الدول الأخرى مسرحاً ثابتاً للعنف بين الدولة وهذه الجماعات، ولكن الأخطر من ذلك هو أن هذه الجماعات باتت تقدم نفسها كبديل للدولة في الأرياف والمناطق البعيدة من مركزية سلطة الدولة حيث يضعف الوجود الحكومي ويحتاج السكان المدنيون للحماية من الحركات المتمردة أو العصابات المسلحة، وهي محاولة منها لإسباغ نوع من الشرعية على وجودها وخلق انتماء محلي لها. ترك ذلك آثاراً عميقة حول قصور دور الحكومة في حماية هذه المناطق ونتج منه صراع خصوصاً مع العمليات الأمنية التي تتوزع في مهام الحماية من المتمردين والجماعات الإرهابية.
هجمات متواصلة
رغم أن دولة النيجر واحدة من أغنى دول العالم بالثروات الطبيعية، إذ تحتل المرتبة الثانية عالمياً من إنتاج اليورانيوم، كما تحوي ثروات معدنية مثل الذهب والبترول، غير أنها غارقة في الفقر، حيث جلب لها موقعها الجغرافي كدولة غير ساحلية وحبيسة بين بلدان أخرى، المعاناة من نشاطات التهريب والتجارة غير المشروعة في الأسلحة والبشر والمخدرات.
وعلى رغم إسهام الاتحاد الأوروبي الذي منح البلاد منذ عام 2011 أكثر من 840 مليون دولار للمساعدة في الحد من تدفق المهاجرين من أفريقيا إلى أوروبا عبر الصحراء، فإن كل ما بذل في تطوير البنية التحتية وتحقيق قدر من الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي أهدر في مكافحة الإرهاب، وذلك غير الهالة الجهنمية التي تحيط بالنيجر حيث تنشط الجماعات الإرهابية في معظم البلدان المحيطة بها وهي الجزائر وليبيا وتشاد ونيجيريا وبوركينا فاسو ومالي.
في أواخر تسعينيات القرن الماضي وبعد الحرب الأهلية الجزائرية تشكل “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” على أثر حل “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، وعملت “القاعدة” على طول الحدود الشمالية للنيجر مع الجزائر، كما أدت الحرب في ليبيا إلى التأثير في الحدود الشمالية الشرقية للنيجر حيث ينشط تنظيم “داعش”.
أما في الحدود الجنوبية الشرقية للنيجر بين تشاد ونيجيريا، فقد ظلت جماعة “بوكو حرام” النيجيرية تنفذ هجماتها داخل النيجر، من خلال مدينة بوسو الحدودية المشتركة بينها ونيجيريا، كما تسرب إليها النشاط الإرهابي من دولة مالي بعد استيلاء المتطرفين على شمال مالي عام 2012، ونفذوا هجمات عدة على النيجر أوقعت بضحايا مدنيين وقتل أربعة من أفراد القوات الأميركية عام 2017، كما شهدت الأجزاء الغربية من البلاد في مطلع أبريل (نيسان) 2021 هجمات متفرقة، مع إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، بفوز مرشح الحزب الحاكم محمد بازوم، حيث هاجم الإرهابيون قريتين، وقتلوا أكثر من 100 شخص.
ولم تتوقف هذه الجماعات من تطوير وسائلها بتنفيذ عمليات إرهابية عبر الحدود وضربات ضد القوات العسكرية المحلية وأفراد الأمن الأجانب، كما أعلن تنظيم “داعش” مسؤوليته عن مجزرة راح ضحيتها 28 مدنياً في بلدة تومور في ديسمبر (كانون الأول) 2020.
التحام الأنشطة
انتزعت النيجر اهتمام الدول الغربية بوقوعها في منطقة محاطة بالمشكلات الأمنية التي تهدد مصالح الغرب، ونتيجة لعدم الاستقرار وانعدام الأمن التحمت أنشطة المتمردين بالإرهاب، فنتج منها نزاعات عنيفة حول حدود البلاد كشفت عنها بيانات أعدها موقع “النزاع المسلح ومشروع بيانات الأحداث” الذي ذكر “تم تسجيل ما مجموعه 167 حادثة مرتبطة بالنزاع نتج منها 506 حالات وفاة في عام 2018. وارتفعت الأرقام إلى 476 حادثة مرتبطة بالنزاع نتج منها 1046 حالة وفاة في عام 2020”.
وحصلت النيجر على دعم كبير من الدول الغربية، بينها فرنسا والولايات المتحدة، ويوجد نحو 1500 جندي فرنسي في البلاد، كما أعلن الاتحاد الأوروبي عن تعزيز دعمه العسكري لمحاربة الجماعات المتشددة. ومع ذلك استمر هجوم المجموعات الإرهابية على إقليم تيلابيري المضطرب الذي يقع في “المثلث الحدودي” عند حدود النيجر وبوركينا فاسو ومالي، ويشهد منذ عام 2017 أعمال عنف من جماعات متشددة مرتبطة بتنظيمي “القاعدة” و”داعش”.
ومن الهجمات الأخيرة شهدت البلاد في مارس (آذار) 2021، قتل 66 شخصاً بهجمات إرهابية على سيارات عائدة من السوق الأسبوعية الكبيرة في بانيبانغو. وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قتل 11 مدنياً عندما هاجم الإرهابيون ثلاث شاحنات ودراجة نارية قرب الحدود مع مالي بين بلدة بانيبانغو وقرية تيزيغورو.
وكانت منطقة بانيبانغو قد شهدت هدوءاً نسبياً قبل هذه الحادثة، ولكن عادت هجمات المتشددين ضد المدنيين في القرى والحقول. ونتيجة لتكرر الهجمات، كونت ميليشيات دفاع ذاتي يقودها رئيس بلدية بانيبانغو، للدفاع عن المنطقة، ولكن قتل المتمردون نحو 70 فرداً من الميليشيات في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
وفي الثامن من يوليو (تموز) الحالي، أعلنت وزارة الدفاع النيجرية أنها تلقت أسلحة ثقيلة ومدرعات قدمتها مصر لمساعدتها في محاربة الجماعات المتشددة. وقال وزير الدفاع النيجري القاسوم إنداتو “تسلمت السلطات العسكرية النيجرية في نيامي نحو 30 مركبة استطلاع مصفحة من طراز (بي آر دي أم-2) ونحو 20 قذيفة هاون ومدفع عيار 122 ملم، وأكثر من ألفي مسدس آلي وبندقية هجومية من طراز (أي كاي 47)، وذخيرة”.
العدو الأول
لم يحقق الوجود العسكري الفرنسي في دول الساحل والصحراء أهدافه كاملة خصوصاً حماية المنطقة من “الإرهاب”. بعد استيلاء “القاعدة” على شمال مالي، نفذت فرنسا عملية “الهر الوحشي” عام 2013، وأدت إلى طرد التنظيم خارج مدن شمال مالي، لكن الجماعة أعادت تنظيم نفسها وتحالفت مع جماعات إرهابية دولية، وأخرى محلية، تحت اسم “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، وتوسعت أنشطتها لتشمل دول منطقة الساحل ككل.
تحركت فرنسا مرة أخرى عام 2014 وأطلقت عملية “برخان” وتعني الكثبان الرملية، ووحدت عملياتها فكانت “سرفال” في مالي و”الباشق” في تشاد، بمجموع 4500 جندي، ووصل إلى 5100 جندي، إلا أن ذلك لم يمنع من تحول المنطقة إلى بؤرة للإرهاب في العالم. وفي عام 2015، انضمت جماعة “بوكو حرام” إلى تنظيم “داعش”، وشكلت “تنظيم داعش – ولاية غرب أفريقيا”.
بلغ نشاط الجماعات المتشددة ذروته في عام 2019 عندما اجتاحت في هجوم متزامن مواقع عسكرية في المنطقة الحدودية بين النيجر وبوركينافاسو ومالي، مما أجبر الجيوش المحلية على الانسحاب. وفي عام 2020، أعلنت فرنسا “جيش نصرة الإسلام والمسلمين” “العدو رقم واحد” بعد أن قتلت المجموعة أكثر من 400 جندي خلال عام واحد في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وعززت باريس قواتها وصعدت العمليات العسكرية إلى جانب القوات المحلية، وقتل أكثر من 430 من مقاتلي الجماعة في 70 عملية فرنسية.
تشتيت الأمن
في تقرير مشروع التهديدات الحرجة الصادر عن “معهد أميركان إنتربرايز” والخاص بالحركات المتشددة في مناطق عدة من ضمنها غرب أفريقيا، أرجع تنامي قوة الجماعات المنتمية لتنظيمي “القاعدة” و”داعش” في النيجر، إلى الانقلابات العسكرية المتتالية في منطقة الساحل، ومنها المحاولتان الانقلابيتان اللتان حدثتا في مالي، أغسطس (آب) 2020 ومايو (أيار) 2021، ثم انقلاب بوركينا فاسو عام 2022.
ونوه التقرير إلى أن “الانقلابات تسببت في خفض المساعدة الأمنية الدولية، مما أدى إلى تسريع انتشار الجماعات الإسلامية من خلال تشتيت انتباه قوات الأمن التي تركز على حراسة المجلس العسكري”. وأضاف “كما أدت تداعيات الانقلابات إلى استبعاد الشركاء الدوليين، فكان انسحاب فرق فرنسية كبيرة من كلا البلدين، مما أدى إلى دفع الأمم المتحدة إلى إنهاء مهمة حفظ السلام التي استمرت 10 أعوام”.
ومع أن القوات النيجرية تعمل مع القوات الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا لمكافحة الحركات المتشددة، باعتبار أن نيامي أصبحت الشريك الغربي الوحيد في منطقة الحدود الثلاثية (بوركينا فاسو ومالي والنيجر) بعد الانقلابات هناك، لكن التقرير توقع أن يتغير كل ذلك مع حدوث انقلاب النيجر الأخير الذي سيؤدي إلى “تقوية تنظيمي القاعدة وداعش من خلال شغل قوات الأمن النيجرية وإعاقة التعاون الأمني الدولي”.
تغير التحالف
أمام استمرار تدهور الوضع الأمني في الساحل، وتزايد اعتماد بعض دول غرب ووسط أفريقيا على روسيا، سعت الدول الأوروبية إلى مساندة فرنسا، من خلال عملية “تاكوبا” ومعناها السيف في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، التي تضم قوات خاصة من دول أوروبية عدة. وفي 15 أغسطس (آب) الماضي، أعلنت فرنسا انسحاب آخر جنودها من مالي، بعد وجود دام تسعة أعوام في إطار قوة “برخان” العسكرية، وذلك لتوتر علاقاتها مع المجلس العسكري الحاكم في البلاد، كما تراجعت القوات الفرنسية في بوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.
وبينما نقلت فرنسا قواتها من مالي إلى النيجر في إطار شراكتها معها، وموافقة الرئيس محمد بازوم على الاستفادة من خبرة القوات الفرنسية في مكافحة الإرهاب، إلا أن وجود قوات “فاغنر” في الدول التي أحدثت فيها فراغاً، يعد المؤرق الأول، كما أن حكومة الانقلاب قد تغير تحالفات نيامي من فرنسا إلى روسيا. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى انسحاب القوات الفرنسية، لا سيما أن الأمم المتحدة أعلنت تعليق عملياتها الإنسانية هناك، ويؤدي كذلك إلى إعاقة جهود مكافحة الإرهاب بالفراغ الذي ستتركه فرنسا لصالح روسيا.
وتوقع الكاتبان مانون لابلاس وبنيامين روجر في تقريرهما في موقع جون أفريك “يمكن لروسيا استغلال حكومة المجلس العسكري الجديد للتهرب من العقوبات الغربية، فقد عززت العمليات الإعلامية الروسية المشاعر الشعبية المناهضة للغرب والمؤيدة لروسيا في النيجر، مثل عديد من البلدان الأخرى في جميع أنحاء منطقة الساحل”. وأضاف المقال “استفادت روسيا من هذا الشعور والمجلس العسكري المناهض للغرب في مالي لتأمين صفقة لنشر مجموعة فاغنر في عام 2021، واستكشفت صفقات مع المجلس العسكري في بوركينا فاسو منذ عام 2022”.