بورخس قارئ رقمي!
أي امتداد نتحدث اليوم حيال الكتاب الرقمي الذي جعلنا نُحمّل مكتبة تحوي آلاف الكتب في كمبيوتراتنا الصغيرة؟
النشرة الدولية –
العرب – كرم نعمة –
رفض صديقي، وهو كاتب أصدر أكثر من عشرين كتابا في النقد والأدب، وقارئ أكثر احترافية، مطالعة نسخة رقمية من كتاب كان ينتظره بشغف! قال لي إنه قارئ ورقي عتيق ولا يمكن أن يغادر منصته تلك إلى الكتاب الرقمي الذي عرضته عليه بعد أن سألني عنه.
أنا أعرف شقة صديقي الصغيرة في لندن التي ليس بوسعها أن تتحمل مكتبه كما كان منزله في بغداد، وأدرك معاناتنا في تكديس الكتب بمنازلنا الصغيرة، لدرجة أنه يصعب عليّ أحيانا أن أستخرج كتابا من تحت الأكداس في المساحات الصغيرة الموزعة في زوايا المنزل.
لكنني أيضا أدرك حساسية صديقي، فهو كخورخي لويس بورخس يرى في الكتاب الأكثر دهشة بين كل الأدوات التي اخترعها الإنسان طوال تاريخه، إذ إن بقية الأدوات هي امتداد للجسد، فالتلسكوب امتداد لرؤية الإنسان، والهاتف امتداد لسمعه، غير أن الكتاب امتداد لشيء آخر، امتداد للذاكرة والمخيلة.
لكن عن أي امتداد نتحدث اليوم حيال الكتاب الرقمي الذي جعلنا نُحمّل مكتبة تحوي آلاف الكتب في كمبيوتراتنا الصغيرة؟
يتحدث الكاتب بول دالي أشهر كتاب أعمدة صحيفة الغارديان بطبعتها الأسترالية، عن الحرب الاقتصادية التي تشن اليوم على المكتبات المنزلية. وبالطبع دالي ليس مثل صديقي الورقي، فمع وجود أكثر من 70 مترا من الرفوف في منزله الأسترالي، فإن كتبه تعاني من أزمة سكن. ولا يمكن أن أعطي رقما ضئيلا لرفوف شقة صديقي، التي هي في أفضل الأحوال لا تزيد عن رفوف مكتبتي المنزلية.
وحيث لا توجد أرفف كتب في أغلب المنازل اليوم “ليست قاعدة مطلقة”، فهذا يعني عادة وجود عدد قليل من الكتب. بينما التاريخ يصف الكتب في المنزل، على أنها مصنوعات ثقافية اجتماعية، تم تنسيقها للدلالة على الطموح والذوق.
مع ذلك لا أجد سببا يجعلني أتعاطف مع صديقي الورقي، عندما أحتفي بمكتبتي الرقمية التي منحتني فرصة كنت أتوق إليها منذ سنوات، عندما سنحت لي بأن أحمّل مئات الكتب على كمبيوتري المحمول وهاتفي، ألجأ إليها كلما وجدت مساحة زمنية للقراءة في المنزل أو المقهى أو القطار. بل إن ساعات السفر صارت أقصر بكثير وأنا أفتح كمبيوتري الصغير والعزيز في الطائرة لأقرأ ما يتسنى لي.
رَفضْ صديقي القبول بالكتاب الرقمي أعادني إلى ترتيب مكتبتي الموزعة بين ثلاثة كمبيوترات وبينها الموبايل، يسهل جمعها عبر خدمة الإنترنت السحابية، واكتشفت أنني قمت بعمل يستحق الفخر على مدار السنتين الماضيتين، فقد قرأت من الكتب من دون جدول مسبق ما يعادل ما قرأته خلال سنوات العمل اليومي المضني.
لقد عدت إلى كتب قرأتها قبل عقود عندما وجدت تحميلها المجاني في عدة مواقع، اكتشفت حينها حساسية الذائقة ومستوى القراءة المعرفية، فما كان يبهرني من قبل وجدته لا يتعدى الأفكار السطحية، مثلما وجدت في إعادة القراءة لكتب أخرى أنني لم أقدّر المعرفة العميقة في ما قرأته من قبل.
لقد حصل كل ذلك في الفرصة الجليلة التي منحنا إياها تحميل الكتب الرقمية. وهي خدمة لا تلغي القيمة الحسية للكتاب الورقي، لكن وسط الحرب الاقتصادية على المكتبات المنزلية ومدخراتنا المالية، يصبح الكتاب الرقمي المجاني خدمة تشعرنا بالامتنان، صحيح أننا ندفع فيها الكثير من ألم العيون، لكننا لا ندفع فيها من مدخراتنا المالية! وهي معادلة اقتصادية صالحة للقبول بها.
في النهاية، الكتاب شكل من أشكال السعادة، وإذا كان بورخس حيا سيشعر بتلك السعادة التي توفرها له التقنية الرقمية بعد أن فقد بصره وبعد أن صار الكتاب طبقا مسموعا أيضا، فإنه سيشعر بوجوده من جديد ولا يفقد تعريفه لنفسه بأنه كان كل الكتّاب الذين قرأ لهم، عندما غير العصر الرقمي الجملة لتصبح الكتّاب الذين سمعهم!