أبداً لن يعود

النشرة الدولية –

المدن – بتول يزبك –

ما يجعل حياتنا في لبنان، لا تستحق الحسرة هو هذا التبديد المُدبّر للشعور بالخفّة، بالروتينيّة، ببديهيات الطمأنينة. ولا أقصد بالطمأنينة زوال الخطر الأمنيّ مثلاً، أو تحقيق العدالة، ووقف الشقاق الشعبيّ والسّياسيّ، أو حتّى تقديس فكرة الحياة بما تختزله من احترام للإنسان ككائنٍ حيّ، فانٍ، لكنه فردٌ يتنفس بحريتّه في إطاره الزمنيّ المُتاح له. بل أقصد ذلك الشعور بأحقيّة الحياة، وأحقيّة التمسك بها، والخوف البديهيّ والإنساني، من الموت واحتماليته…

ما يجعل حياتنا في لبنان، لا تستحق الحسرة، هو سقوط قيمة الفرد ككائن يستحق الحياة بالمرتبة الأولى، سقوط حقّه في تقرير مصيره. والتطبيع مع الموت وتقبل دنوه، في الشارع العموميّ الذي نمرّ فيه كلنا، عند الشاطئ، على قمة الجبل، في محل السّمانة، في الجامعة، في المكتب، في الصندوق الاسمنتيّ الذي نركن إليه أكثر مما تسمح لنا عادةً فيزيولوجيا النجاة.

وبالتّالي، فإن هذا الدنو الخطير، المستمر والسّاخر، يجعل فكرة الموت أخف وطأة وثقلاً. يجعلها احتمالاً وارداً، مستساغاً ومقبولاً.

لعلّ هذا هو الاستنتاج الوحيد، الذي بدا لي الأكثر منطقيّة في محاولتي المستمرة لفهم ما رمت إليها جوديث بتلر في كتابها الشهير “أُطر الحرب: متّى تستحق الحياة الحسرة؟”، مُعالجةً بأسلوبها البلاغي فكرة انتقائية وتفاضلية: الموت والحياة، في زمن الحروب التّي تكشف تباعاً انغماس المجتمعات المنكوبة في جدليّة مَن تستحق أو لا تستحق حياتهم الحزن والتحسر.

فهل تأقلمنا مع فكرة الموت وتجاوزناها، كشعب مثل باقي شعوب المنطقة، كرومانسيّين نتقاسم وإياهم المأزق نفسه؟ أم هو اعتيادنا عليه كمشهدٍ مُكرّر، روتينيّ؟ هل هو إنكارنا للموت وما يكتنفه؟ هل هو إيماننا الشكليّ بسِمته الدينيّة، بأحقيّة الموت والحياة ما بعده؟ هل هو قُرب المقابر من بيوتنا وشوارعنا ودمجها في مُدننا، وحضورها الغزير في ذاكرتنا؟

في تقديري، ليست الحروب وحدها، وعلى عكس ما اعتبرته بتلر، كفيلة بجعل الموت فكرة مستساغة ومقبولة حدّ التعالي عن التّعاطف، حدّ استحالة الحياة مجانيّة لهذه الدرجة. بل هو غياب الأمل، بما تحمله هذه الفكرة من ابتذال وتصنّع. وعليه، فإننا كمحكومين بالبؤس العرضيّ، فقدنا تدريجيًا القدرة على فهمه، وبالتّالي امتنعنا عن الحديث عنه، وصمتنا.

إلا أن الفكرة الاستفزازيّة تكمن في صمتنا، على الضدّ من كل الطُرق والفلسفات التّي تقدسه كتعبيرٍ مُجرّد وروحانيّ، كصفعةٍ سِلميّةٍ على وجه الفوضى، كحلّ جذريّ. إن هذا الصمت الموارب، هو ببساطة مُصالحة مع محدوديّة كينونتنا، إذعانٌ مُحرِج يفضح عمق عجزنا أمام اللغة، أمام أُفقٍ لا متناهٍ من الفرضيات، أمام واقعٍ كلّ ما فيه يُغتفر حدّ الوقاحة، أمام تفجيرٍ مُدمر، أمام مقتلةٍ دموية، أمام النزيف المستمر للشباب، أمام مقتل الأطفال والنسوة، أمام كل ما يستدعي الثرثرة، كل ما يستدعي الافتعال والتحسر.

وبخشيتنا من الحديث وافتعاله، من الصراخ بعلو أصواتنا، من الانفجار غيظاً، نبدو كأننا في الواقع نتحسر على حياتنا قبل أن نفقدها، نستشرف الأسوأ، حتّى نستنزف قدرتنا على التحسر على أنفسنا وعلى غيرنا. الكارثي في ما نعيشه، أننا لا نعي مأزقنا الذي ينمو كفجوةٍ هائلة بين ما يستحق أن نشعر به وما لا يستحق. الكارثي أننا أدركنا أن موتنا ينبض في قلب حياتنا نفسها، أننا مثل غراب إدغار آلان بو، حيوانٌ مشؤوم، غرابٌ جاثمٌ على حافةِ نافذةٍ، لا يعرف أن يقول أو يردّد إلّا عبارة واحدة وهي “أبدًا لن يعود”. لن يعود ما سُلب منا.

أما عني، فمنذ أدركت يقينًا انجراري إلى هذا الصمت العام، اندفعتُ قسراً، لا أوفر فرصةً للثرثرة، لا أوفر فرصةً لافتعال حديث، لاستنزاف اللّغة، لاستهلاك اللفظ، وتأصيله صوتياً، ونحوياً، ودلالياً.

أما المُحرج في تطرفي وانحداري بالعاطفيّة شبه الدراميّة هذه، أني انغمست فيها لدرجة الغرق والاختناق، كردّ فعلٍ تمرديّ على واقعٍ فوضويّ، مُزعج، عبثيّ. فلو كان الأمر في يدي، لا أتخيل نفسي في سهوب أوروبا مثلاً أو في أحد أزقة نيويورك. أستشيط غضبًا هكذا، أو أثرثر مستجديّة أي صوتٍ يغالب الصمت المحيط، متوجسةً من أن يبتلعني الصمت بوقاحة وعبثية، فوق سِيَر العشرات التي ابتلعها وحبسها في جوفه.

زر الذهاب إلى الأعلى